«لسه»... الأغاني ممكنة!
جلس على أريكة كالحة اللون ملتصقة إلى الحائط ومدد ساقيه على كرسي خشبي صغير. لم يسمع زوجته وهي تخبره أنها داخلة غرفتها لتنام.
تتمايل الراقصة أمامه على شاشة التلفاز ويمرق شريط الإعلانات أسفل الشاشة يسابق الثواني في أحدث وسيلة للتسول على الشاشات. تتراقص أفكاره، خيالات وحشية تتدافع أمام ناظريه، تخيفه أحيانا، يشاركه فيها الإنس والجن، لا تهدأ رغم محاولاته المتكررة لمطاردتها، تصيبه بالدوار.مر زمن لم يشعر به وهو على هذه الحال، نظر الى الساعة المعلقة فوق الحائط فوجدها تشير الى الواحدة صباحا. الوقت يمضي...لا بل نمضي نحن ويبقى الزمن.تذكر كلمات محمد الماغوط: «أعطونا الساعات وأخذوا منا الزمن».يشطح به الخيال هروبا من جحيم الواقع المتهاوي. انتابه إحساس بالإشفاق على نفسه. أعد كوبا من الشاي وأخذ يرتشفه ببطء. خاب أمله كالملايين من شباب الوطن بعد أن هدأت موجات الثورات التي اجتاحت عدة دول عربية. تذكر كيف أنه كلما سقط ديكتاتور من فوق عرشه، التهبت كفاه بالتصفيق وحلقت آماله في السماء، وتفاءل خيرا بما أطلقوا عليه الربيع العربي.ولكن سرعان ما تبخرت احلامه، يختفي ديكتاتور ليظهر ديكتاتور آخر، يندلق من افواه الجماهير الثائرة، والجماهير هي من تصنع الديكتاتور. وبدلا من التكاتف، يتقاتل الثوار وتأكل الثورة ابناءها، يتهافتون على المناصب.أصبح يسخر من سذاجته حين اعتقد أن نور الفجر قد شق ثياب القهر والخنوع. وهمس لأصدقائه: «إن عصور الظلام تسمى كذلك لا لأن النور لا يسطع فيها، بل لأن الناس يرفضون رؤيته». هكذا هي الحياة لوحة لا تتم وأنشودة لا تكتمل.يهرب الى شرفة غرفته الضيقة المطلة على سفح أهرامات الجيزة والتي تؤكد له ان الأهرامات مازالت باقية رغم اختفائها من وجدان المصريين.يلجأ إليها هربا من أشباحه أو هربا من أخبار القتل المتدفقة بإصرار غريب من كل صوب.كل شيء في بلادنا له ثمن عدا حياة الانسان.لا يدري ما دعاه للسهر؟ لعل الأشباح عينته حارسا للنجوم. إن النجوم البعيدة في السماء تبدو لنا دائمًا جميلة وشاعرية ولكنها تحتاج الى من يحرسها.يمر مجموعة من الصبية في الشارع وتتعالى صيحاتهم وهم يتدافعون. يتبادلون السجائر في ما بينهم. نظروا إليه بغير اكتراث ومضوا في حال سبيلهم.تسلل إلى أذنه صوت نسائي من البناية المجاورة موشيا بالغناء: «على صوتك بالغنا.. لسه الاغاني ممكنة».استلقى على فراشه ولسان حاله يقول: سأنام الآن وأحاول الحلم من جديد.