تشمل خصائص الديمقراطية أن يرث الرؤساء المنتخبون حديثاً حروب أسلافهم، مع أن هذه قد تكون التزامات يعارضونها بشدة. وهكذا شكّل انتخاب الرئيس باراك أوباما استفتاء بشأن غزو الرئيس جورج بوش الابن الذي أخفق في العراق، فبفضل معارضة أوباما غزو عام 2003 منذ البداية، معتبراً إياه "حرباً غبية"، نجح في التفوق على هيلاري كلينتون والحصول على ترشيح حزبه.
وفي عام 2008، السنة التي انتُخب فيها أوباما للمرة الأولى، اعتبر 63% من الشعب الأميركي الغزو خطأ، بمن فيهم جمهوريون كثر، لذا لا يستطيع أحد الادعاء بأن أوباما لم يحظَ بتفويض الشعب الأميركي ليسحب الجنود الأميركيين من العراق عام 2011.ولكن إليكم المشكلة: الرأي العام متقلب؛ إذ إن أفكارنا عما يُعتبر مهماً تتأرجح كثيراً (من ضياع الطائرة الماليزية إلى خطف الفتيات في نيجيريا والتظاهرات في أوكرانيا ومن ثم هونغ كونغ) وبسرعة تضاهي سرعة تبديلنا محطات التلفزيون، فبعد قطع رأس صحافيين أميركيين، أيّد 73% من الأميركيين قصف "داعش"، علماً أن 39% منا فقط شعروا قبل شهرين أن علينا التدخل.صحيح أن الدعم الشعبي ضروري لمواصلة حربٍ ما، إلا أن الرئيس لا يستطيع الاستناد في سياسته إلى إرضاء الشعب، إذ تتطلب السياسة الجيدة عقوداً كي تثمر، وقلما يُقاس نجاحها من خلال عناوين الصحف والأخبار، بل على العكس، قد يشكل غياب الأخبار أفضل مؤشر إلى أن هدفها قد تحقق أخيراً.كم نفكر في الجنود الـ30 ألفاً الذين بقوا في كوريا الجنوبية؟ في عام 1950، كانت تلك الحرب تشغل بال الأميركيين، وفي عام 1953، بدت نتيجتها غير مرضية البتة، حيث أبقى وقف إطلاق النار النظام الشيوعي في كوريا الشمالية وحكماً ديكتاتورياً فاسداً في كوريا الجنوبية، ولكن بعد ستة عقود، تنعم كوريا الجنوبية اليوم بالديمقراطية والازدهار بفضل الجنود الأميركيين الذين قلما نسمع عنهم.يتطلب النجاح في السياسة الخارجية الصبر، صحيح أن التاريخ سيَعتبر على الأرجح غزو العراق عام 2003 إخفاقاً استراتيجياً، إلا أن الوجه السلبي من قرار أوباما الانسحاب عام 2011 بات اليوم جلياً، ولا شك أن إدارة أوباما حاولت التوصل إلى اتفاق لترك قوة صغيرة في العراق، لكن هذه الجهود لم تبدُ جادة، إذ تُظهر المذكرات التي نشرها أخيراً وزير الدفاع السابق ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ليون بانيتا أن الصفقة تعطلت "من دون تأييد الرئيس الناشط".لا يستطيع أحد أن يجزم بأن بضعة آلاف من الجنود الذين كانوا سيظلون في العراق كانوا سيمنعون نهوض "داعش" في سورية والعراق، ولكن من الواضح أن الولايات المتحدة أدت دوراً مهماً في استقرار العراق بصفتها حكماً وضامناً للتسويات السياسية، غير أنه بعد أن سحبت واشنطن جيشها والتزامها السياسي كليهما، انهارت التسويات التي لعبت فيها الولايات المتحدة دور الوسيط، ولا بد من الإشارة إلى أن الانسحاب الأميركي فاجأ القادة العراقيين، فصحيح أنهم طالبوا به في العلن، غير أنهم لم يتوقعوا أن تنسحب الولايات المتحدة (التي تكبدت خسائر مادية وبشرية) بهذه الطريقة.نستمد من الفوضى في العراق الدرس التالي: على الولايات المتحدة أن تسعى لتتفادى الأخطاء ذاتها في أفغانستان، فعندما رفض الرئيس الأفغاني حامد كرزاي توقيع الاتفاق الأمني الثنائي الذي يسمح للجنود الأميركيين بالبقاء، بدأت إدارة أوباما بالتفكير في سحب كل جنودها بحلول نهاية عام 2014، ولكن من حسن الحظ أن أفغانستان أجرت انتخابات أدت إلى تشكيل حكومة وحدة جديدة (مع أنها هشة) تشمل أشرف غني أحمدزاي رئيساً وخصمه عبدالله عبدالله رئيس وزراء، وسارعت هذه الحكومة إلى توقيع الاتفاق الأمني الثنائي.رغم ذلك، لا تزال إدارة أوباما، على ما يبدو، سائرة نحو الانسحاب الكامل من أفغانستان، فلا شك أن هذه ليست حرباً يود الرئيس الأميركي نقلها إلى خلفه، ولكن على غرار الحكومة العراقية، لن تصمد الهدنة الهشة بين أحمدزاي وعبدالله إلا بسبب الدبلوماسية الأميركية، وإذا انسحبت الولايات المتحدة بالكامل اليوم، فقد تنقسم أفغانستان على غرار العراق.يذكر حسن عباس، بروفسور في جامعة الدفاع القومي في واشنطن ومؤلف كتاب Taliban Revival (نهضة طالبان): "يجب أن نترك من 15 إلى 20 ألف جندي أميركي ومطور قدرات في أفغانستان، وإلا فسنشهد هناك نهوض داعش-2". يتحدث مسؤولو أوباما راهناً عن ترك نحو 9800 جندي في أفغانستان، علماً أنه من المتوقع أن يُخفض هذا العدد إلى النصف بحلول نهاية عام 2015، لكن هذه الخطوة قد تأتي في وقت أبكر من اللازم، فتدعو السياسة الخارجية الحكيمة إلى توخي الحذر عند الانسحاب من الصراعات تماماً كما عند اتخاذ قرار خوضها.
مقالات
لا تكرروا أخطاء العراق في أفغانستان!
09-11-2014