في بداية بوحها الشعري تحاول الشاعرة ماجدة داغر أن تقول للمتنبّي: «أعطني نصف فَرَسِك»، وهو القائل: «على قلقٍ كأنّ الريح تحتي»، وهي القائلة: «قلقُ الريح سكنايَ»... إلاّ أنّها تنجح في تفتيق المعنى والذهاب به إلى رمزيّة أبعد، لتغدو ذات سكنى في مكان لا تدركه الحواسّ، ولا يحتضنه ضوء:

Ad

«سكنايَ نائيةٌ

 أبعد من حواسّي

 أقصى من القفز إلى شعاع.

 وفي جوّ محاصَر بالفجيعة، ويكتفي باللون الأسود لرسم مشهده، تظهر داغر امرأة من ظلال كئيبة، ترمي بكآبتها مفاتيح لأبواب المدينة، مرتدية وحدة الجدران وهي تنفض عن شبابيكها ريش الغربان:

«لا حدوث خلف أبواب المدينة

 خلف التوحّد بالجدران

 النوافذ صارت غرباناً،

 الأسوَد أجّل التحليق، لأجل سلام الريح.

 ولا تغيب عن داغر الشاعرة التي فيها، لذلك، تتذكّر الشعراء العائدين وسلالهم فارغة من فرح الرغبة. هم على تحدٍّ وصراع أزليّين مع الريح التي تهدم منازلهم لتصير هي المنازل، وتمزّق سلامهم ليصبح لهم من التشرّد سكنى، وما عليهم إلاّ تجريد القصيدة من المسافة لتتقلّص السُّكنى ويمسي الشريد ذا بيت على الكتفين يتّسع له دون ما يشعر به من ألم وقلق:

«يعودون من منتصف الرغبة

 الشعراء القادمون

 تهزهم الريح:

عودوا بلا منازل

سلِّموا مآثركم إلى العرّافة

عرُّوا قصائدكم من المسافات...

سكنايَ مسقوفة بالقصائد الرديئة

سكنايَ ضيّقة كبيت السلحفاة.

وتتنازل الشاعرة، وبضباب لغويّ معتدل، تعترف بأنّ الشعراء أنبياء يجوعون فيأكلون ما في صدورهم من وصايا:

والشعراء القادمون

 يقتاتون بقوافيهم

قبل وصول العصافير.

وتمضي داغر في لغتها الحزينة، محاولة التخلّص من ذاكرتها: «لا تُعَرِّ كتفيها من اللحظة المنتشية/ وحدها تعبّئ الوراء في حقيبتها»، عارفةً ما فيها من قدرة الجسد: «وحده أحمر شفتيها/ يرمّم وجه البحر»، مراهنة على خريف يحسده ربيع النساء: «آه يا حبيبي/ لا أزال جميلة في الليل/ وخريفي/ أكثر دفئاً من ربيع النساء»... وفي الوقت نفسه تستقيل الشاعرة، وتحترف التواري: «كسماء الملحدين»، وتنتظر زماناً فيه للمطر أوّل، وللماء رقرقة الحليب في خاطر الينبوع:

دع الغيمة تكبر في رأسها الصغير

وحدها تعلم أوان المطر

وحدها تترقّب حليب الينابيع.

وحين يقترب زمن النهاية تعصف التوراة في لغة داغر، وتجعلها امرأة من نار. كلّ من ينظر إلى الوراء ليعانقها بعينين مشتاقتين لا بدّ له أن ينام نومة أهل الكهف وقوفاً في عمود الملح:

إرحل وهي ترحل

لا تمدّ عنقك إلى فوهة النار

إلى فمها المقطوف من حديقة البركان،

إرحل ولا تنظر إلى الوراء.

وقد تكون «مرثيّة النّزق» النصّ الأكثر توغّلاً في فجيعة الجسد، حيث تقف الشاعرة وجهاً لوجه مع الوقت: «تحتي اللحظة الثابتة/ تحتي موتٌ يطول»، وتعترف بأنّ الهاوية تتسلّقها: «والإحساس بالهاوية يتسلّق الذروة»، وتجد نفسها في حنين إلى زمن العصف: «أين عصفُكَ/ ولك مديح الغربة؟»، غير أنّ الرّجُل المنتظر هو والعدم من نسج امرأة واحدة، وقد رضعا من الثدي نفسه: «تجيء والعدم المرائي»، وتستمرّ الهاوية في الصعود وصولاً إلى عنق الشاعرة لتُضْحي مشنقة من عطر مسموم: «يتصاعد الإحساس بالهاوية / يعلو / يسري في عنقي / كعطر مسموم» وإذا كان المجيء في قبضة المستحيل، فإنّ داغر تنذر ألمَها الأخير لرجل واحد لا يأتي إلاّ في الغياب، ربّما لأنّ الحضور يضيق به، وتهدي إليه مرثيّة نزقها حين يذبل الجسد ويتكفّن بظلال الرغبة وبظلال الوعود التي لا تتنازل وتستريح في أحضان الحقيقة:

لك مراوغة الحنين

 وبقايا البكاء الأسير

 لك بعضي المغلوب

في منافي المسرّة

 في انسحاق الجسد.

في «جوازاً تقديره هو» تؤكّد الشاعرة اللبنانية ماجدة داغر جملتها الشعريّة، وتثبت أنّ نافذة لها خاصّة تطلّ منها على حدائق شعر معلّقة.

وجع النساء

ماجدة داغر المرأة تعيش وجع بنات جنسها، فهي لا تستطيع أن ترى السبايا الإيزيديّات في العراق، من دون أن تغسل قيودهنّ والسلاسل بعسل القصيدة الحزين. فهنّ هي، هي التي أسرَتْهُنّ في ضمير المتكلّم المفرد: «... سبيٌّ أنا.../ مخلوق من طين يتشكّل في حدقة السّابي»، ومدّت أبعاد السبي على بساط الحروف المقطوفة طازجة من شجرة الكآبة، فالسبيّ سجين التّوق إلى الغابة الأولى، إلى رحم الأمّ، واللحى الغبراء مقصّات أعمار وأحلام: «كائن موقّت أنا/ أتوق إلى شتائي في الغابة البنفسجيّة/ هناك حيث رحم أمّي/ ... يا بيتي على ضفاف النقاء/ طريقي إليك تكنسها كلّ مساء لحى غبراء»...

وتُعاين الشاعرة نسبة الموت في أجساد سباياها فيظهر لها: «موتٌ كثير قبل الموت المشتهى»، وتراهُنّ يتلاشين حتّى يسبي الألم أمكنتهنّ ويعيد الألم صياغتهنّ ليصرن كائنات زمانيّة قصيرة العمر على كثافة: «ما زلتُ أعيد الانتظار/ حتى فرغتُ من المكان/ تلاشى فيّ المكان/ صرت اللحظات المأهولة»، وتعرف داغر أنّ سباياها لن يعُدْن إلى ساحات الضوء ليرتدين أعماراً في أيّامها رحيق حريّة وحياة، فترثيهنّ في ضباب من صناعة ضجيج الطبول وتترك من دمائهنّ وشماً على جبين القصيدة، وتومئ للديوك أنْ صِيحي فإنّ الفجر سكّين والمذبحة ستكون متوّجة بالزغاريد:

أختبئ في الغابة البنفسجيّة

تلحق بي أصوات الطبول وأهازيج السبايا

يا بنت البنفسج المسفوك

 جئناك بصياح الديوك

 يا بنت سنجار الشريد

جئناك بالذبح والزغاريد.