أدب الرحلات نافذة التعايش الثقافي (3)
من بين أجناس الأدب المختلفة يبرز أدب الرحلات ليكون الجنس الأكثر تمثيلاً ودفعاً لقيم التعايش والقبول بين الشعوب في شتى أجناسهم وألوانهم وعقائدهم وخلفياتهم الثقافية المعقدة. وقد كان للعرب قصب السبق في التأسيس لهذا الجنس الأدبي الشائق منذ القرون الوسطى، متمثلاً في التجربة الغنية والمثيرة للرحالة العربي ابن بطوطة. ولم تكن رحلات ابن بطوطة، التي طاف خلالها في أصقاع قارات العالم القديم الثلاث، مجرد سفر يتلوه سفر، بقدر ما كانت انطلاقة فكرية وروحية في رحلة استغرقت جهداً كبيراً وعمراً مديداً تم تكريسهما للاكتشاف والتعلّم وسبر أغوار عالم يضجّ بكل ما هو غريب ومختلف، فلا غرو إذن أن سمىّ مؤلَّفه الفريد «تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار».ولعل إدامة النظر في عنوان كتاب ابن بطوطة يحيلنا إلى تلك الدهشة المتجددة في كلمتي «غرائب» و»عجائب»، حين يجد الرحالة نفسه وجهاً لوجه مع ما هو غريب وعجيب ومختلف، وربما صادم للذائقة أو المعتقد أو اعتيادية المألوف والمعروف. ثم كيف يمكن أن يدرّب الإنسان نفسه على التأقلم والتقبّل، وإن على مضض أو تحمّل، إلى أن يسلس قياد نفسه فتطيعه، وتألف ما تراه وتختبره، ثم في مرحلة متقدمة تستوعب تلك الاختلافات إلى درجة الشروع في الكتابة عنها بأريحية وإيجابية نادرة.
إن القارئ لـ»تحفة» ابن بطوطة مدفوع بلا شك للتساؤل المشوب بالعجب حين يرى كم استغرقت رحلة ابن بطوطة من مسافات وأصقاع موزعة بين قارات العالم القديم: آسيا وإفريقيا وأوروبا، في زمن كانت وسيلته الدواب والمطايا والمراكب الشراعية، ليقطع الرحّالة بواسطتها رحلات مديدة وعمراً ثرياً بالتجارب والتواصل والتراكم المعرفي. فقد انطلق من طنجة / المغرب نحو الإسكندرية والقاهرة ودمشق ومكة ومدن العراق وإيران، ثم في رحلة ثانية إلى السودان واليمن والصومال وكينيا وتنزانيا، وبعدها إلى بلاد الروم والبلغار وقازان الروسية والقسطنطينية، ثم مدن ما وراء النهر كسمرقند وبخارى وترمذ، ثم انتقل إلى الهند وبلاد الصين وسيلان والبنغال وآسام، إلى أن عاد إلى مدينة فاس/ المغرب، بلاده ومسقط رأسه، بعد خمس وعشرين سنة من السياحة الشاسعة في امتدادها ومعناها.أما متن الكتاب فجاء مرآة لتلك التجربة الحياتية الثرية، حين وصف بدقة الأماكن ومواقع المدن، وحين قارن في البناء والهندسة، وحين وصف الألبسة والعادات والتقاليد، وحين تحدث عن الديانات والطقوس الدينية، كذلك اهتم بذكر ما تمتاز به كل بلد في الزراعة والصناعة والتجارة. وقد استطاع ابن بطوطة على مدى سنوات سياحته المترامية اتقان اللغة الفارسية والتركية إلى جانب العربية، وكان يورد في كتابه بعض مفردات تلك اللغات. ولعل في هذا دليلا واضحا على قدرة ابن بطوطة على معايشة البيئات المختلفة، والتفاهم مع أولئك بلغاتهم الأصلية دون استنكاف أو حرج.بل إن اندغام ابن بطوطة مع البيئات الغريبة أو الأجنبية وصل إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد ثبت في سيرته أنه كان مزواجاً خلال رحلاته وتنقلاته، فهو لم ينزل بمكان إلا وذُكر أنه تزوج فيه، بل وأنجب الأبناء، الذين غالباً ما يعود لتفقد أحوالهم بعد حين. وبذلك يمكن القول بأن ابن بطوطة خير من يمثل العقلية المنفتحة، والروح المتطلعة المستكشفة لآفاق إنسانية بلا حدود، ويكفيه ذلك لتجسيد معنى التسامح بأبهى صوره. أما كتاب رحلاته وسياحته فهو الترجمان الدقيق لهذا التفاعل الإنساني النادر.