ليس رثاءً لأحد!
أن تعيش بمحاذاة الحد الفاصل بين الحياة والموت لبرهة من الزمن تجربة فريدة في غاية الثراء! كم هو مدهش أن يعبرك الموت كبرق خاطف، ويضعك أمام نفسك وجهاً لوجه، عارياً من نفاق ذاتك لك، ومن خداعها لك، ومن كل المكياج والأكسسوارات التي تحرص ذاتك ليل نهار على إكمال صورتك بواسطتها.ها أنت أمامك وحدك... مجبر على استعراض شريط حياتك بسرعة فائقة، لسبب غامض ربما لا تدركه! ربما هي محاولة أخيرة من باب القلق لمعرفة مصيرك في الآخرة، من خلال موجز سريع لما عملته في الدنيا، تستعرضه بشفافية محاولا البحث عن قشة من خير ربما تطمئن إليها لتنقذك من سوء المصير، أو ربما كنت تستعرض شريط حياتك في تلك اللحظة الزاخرة بالمشاعر لترتشف القطرة الأخيرة، التي عادة ما تكون الأشهى من شهد الحياة، أو ربما كنت تستعرض ذلك الشريط لتعرف أين أخفقت خلال الحياة لتصل إلى النهاية بغير الطريقة التي ترغب، وربما بغير الوقت الذي خططت له!
لا شك في أن الحياة جميلة، ومن المؤسف أن نغادرها دون أن نكتفي منها إلا أننا على يقين بأننا في الغالب لا نبقى فيها إلى حين نشاء، لكن إلى حين تشاء هي، فلماذا إذن ترعبنا النهاية؟!بعضنا مراوغ، مكّار، يتحجج بأن سر تمسكه بالحياة ليس حب الحياة، لكن مخافة الآخرة، علماً أن هؤلاء لو كانوا صادقين لأصبحوا أتقياء، رداء قلوبهم الورع الشديد، وقوت نفوسهم في الحياة الزهد، لكنهم فالعادة ليسوا سوى أناس عاديين تشغلهم الحياة الدنيا أحياناً أكثر من الحياة الآخرة التي يدّعون مخافتها.البعض الآخر منا لا يريد لهذا العمر أن ينتهي لأنه ببساطة أدمن الحياة، وهذا لا يعني بالضرورة أن جميع أفراد هذه الفئة سعداء في الحياة لذلك أدمنوها... أبداً، إن بعض هؤلاء من أكثر الناس تعاسة في الحياة، ومع ذلك يتمنون لو خلّدوا فيها! وهناك من يعتقد أن أقل عدل تمارسه الحياة معه هو أن تمهله من العمر ما يكفي ليكمل مشروعه فيها، أياً كان ذلك المشروع وأياً كانت أهميته، وكأنما العمر فصّل لنا حسب أهدافنا في هذه الحياة، أو حسب مشيئتنا.تفاجئنا صفّارة الحياة في عزّ لهاثنا فيها، لتعلن نهاية رحلتنا فيها،فطوبى لمن يرفع قبعته لها حينها، وينحني شاكراً، لما منحته من عمر طرّزته بجمال الأحبّة والأصدقاء والكثير من الحب والسلام وما تيسر من العمل الخيّر ولو كان بكفّ الأذى عن سواه من البشر،طوبى لمن اقتسم مع الحياة قلبه فعاش عمرا أطول من زمن بقائه فيها، وشاركها حبّه فأرشدته لأبواب فتنة سرية لا يراها العابرون!طوبى لمن راهن مؤمناً على أن الله هو الرحمن الرحيم، كلما خوفوه بأن الله شديد العقاب!طوبى لمن لا يكره رفقة الكريم إذا دعاه، وطوبى أخيراً لمن لا يقدّر قيمة الحياة بمدّة ما عمّر فيها، ولكن بجمال ما عمّرت فيه!