إذا كنت من هؤلاء الذين يتابعون ما تنشره الصحافة الأجنبية عن المنطقة العربية بانتظام؛ فلعلك تعرف أن أحد أهم الموضوعات التي يتم تداولها راهناً في هذا الصدد يتعلق بـ"الإنجاز الديمقراطي التونسي" في مقابل "النكوص المصري عن الديمقراطية".

Ad

ما أنجزته تونس في مضمار الانتقال الديمقراطي عمل تاريخي بكل المقاييس، ومن الممكن بعد ترسيخه والبناء عليه، أن يكون مصدر إلهام للمنطقة كلها، خصوصاً بعد نجاح حزب "نداء تونس" (الذي يضم رموزاً من حكم بورقيبة وبن علي) في الفوز بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، وقيام حزب "النهضة" الذي يمثل "الإخوان المسلمين" بتهنئته، وإعلانه استعداده للعمل معه.

يقارن البعض بين وضع "الإخوان" في تونس؛ إذ ينافسون في انتخابات نزيهة، ويحلون في المرتبة الثانية، ويهنئون الفائز، ويعربون عن استعدادهم للعمل معه، ووضع "الإخوان" في مصر، حيث يمارسون الإرهاب في الشوارع، أو يحرضون عليه، أو يقبعون في السجون.

وتدفع المقارنة إلى الاعتقاد بأن السلطة القائمة في مصر الآن أرادت "إنهاء الربيع الديمقراطي"، و"إعادة إنتاج الاستبداد"، في مقابل نجاح التونسيين في جعل الديمقراطية حكماً بين المتنافسين السياسيين، ليحصلوا على السلام وعلى الحريات في آن واحد.

إن هذا الاعتقاد خاطئ.

كانت مصر قادرة على الوفاء باستحقاقات الانتقال الديمقراطي، خصوصاً بعدما فاز مرسي بالانتخابات الرئاسية، وهنأه خصمه الذي خسر بفارق بسيط، وتم تسليم الرئيس المنتخب مقاليد الحكم، واحتفل به أنصاره، وراح يخطب كل يوم ممنياً الجمهور بالكثير من الإنجازات والنجاحات.

لكن ما جرى لاحقاً كان مسلسلاً لا ينقطع من النكبات والمآسي؛ فقد وعد الرئيس المنتخب بتحقيق التقدم في خمسة ملفات أساسية من الملفات التي تزعج المصريين وتؤثر سلباً في نمط حياتهم، في فترة المئة يوم الأولى من حكمه.

لقد انتهت المئة يوم الأولى من حكم الرئيس المنتخب، فإذا بتلك الملفات تشهد تراجعاً واضحاً، بشكل أدى إلى تفاقم معاناة الجمهور.

بعدها، ظهر بوضوح للغالبية العظمى من المصريين أن الحكم الجديد، الذي ظنوه حكماً ديمقراطياً لم يكن سوى استبداد باسم الصناديق.

كان الاقتصاد يتراجع، والخدمات تتردى، والدَّين العام يتفاقم، والعجز المالي يتسع، والبطالة تزيد، والعلاقات الخارجية تتضرر، والأمن يترنح، وعنف الشارع يتكرر، بينما الرئيس وجماعته يشنان هجمات لا تنقطع على الديمقراطية وحقوق الإنسان.

لا يمكن تقييم تجربة مرسي في حكم مصر دون التذكير بخطايا كبيرة ارتُكِبت في حق الديمقراطية نفسها؛ وأولى هذه الخطايا كان الإعلان الدستوري الهزلي الذي أصدره في 21 نوفمبر 2012.

في هذا الإعلان حصّن الرئيس السابق قرارته ضد أي شكل من أشكال الطعن، وبالتالي، فقد أراد أن يحكم في هذه الفترة، التي كان يمتلك فيها أيضاً سلطة التشريع في غيبة "البرلمان"، من دون أي رد لمشيئته أو تعطيل لإرادته أو محاسبة أو مساءلة لما يرد منه أو من جماعته. في هذا الإعلان أيضاً حصن الرئيس السابق الجمعية التأسيسية ضد أي قرار قضائي بحلها، كما حصن مجلس الشورى ضد أي حكم قضائي بحله، وإضافة إلى ذلك، فقد أطاح النائب العام، وعين نائباً عاماً بمعرفته بالمخالفة للقانون.

لم يكن الإعلان الدستوري هو الانقلاب الوحيد على الديمقراطية ونتائج الصناديق من قبل مرسي وجماعته، لكن ثمة ما حدث وكان أكثر مأساوية وأبعد أثراً؛ فقد قام أنصار الرئيس السابق بمحاصرة المحكمة الدستورية العليا، وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد، أياماً عدة ليمنعوا قضاة المحكمة من الدخول إليها، وإصدار حكمهم في القضايا الخاصة بمجلس الشورى والجمعية التأسيسية.

وبسبب هذا الحصار الذي تم تحت سمع الرئيس وبصره وبواسطة أعوانه أو "أهله وعشيرته" وفق المصطلح الذي كان يفضل استخدامه، فقد عجزت المحكمة عن القيام بدورها، وهو الأمر الذي يسقط أي رئيس وأي نظام في أي بلد ديمقراطي، خاصة أن الرئيس هو المسؤول الأول عن إقرار القانون والدفاع عن استقلالية القضاء وإتاحة الفرصة اللازمة له للقيام بعمله وأداء دوره.

ليس هذا فقط، لكن الرئيس المنتخب ديمقراطياً، سمح لأعوانه وأنصاره بمحاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي، لكي يفرض على وسائل الإعلام المختلفة تغطيات مواتية ومؤيدة، ولكي يحد من أي انتقادات أو محاولات لكشف ديكتاتوريته واستبداده وعجزه وفشله.

ليت الأمور وقفت عند هذا الحد، لكن ما لم يكن متوقعاً أو متخيلاً، وما فاق أي تصور، وتجاوز أي حد، كان الطريقة التي تم إعداد الدستور الساقط بها وإقراره.

لقد اختار "البرلمان" جمعية تأسيسية غير متوازنة، يهيمن عليها تيار الإسلام السياسي، الذي سعى إلى فرض أجندة محددة على الدستور.

تفجرت الجمعية من الداخل بالطبع، وعندما حان وقت التصويت على النسخة النهائية من الدستور لم يكن ممثلاً فيها سوى أعضاء التيار الإسلامي؛ إلى درجة أن ممثل الكنائس الثلاث بعد انسحابها جميعاً لم يكن سوى شخص اسمه "محمد" وهو رئيس لحزب متحالف مع تنظيم "الإخوان" آنذاك.

في 23 فبراير الماضي، كتبت مقالاً في هذه الزاوية تحت عنوان "إسلاميو مصر يخدمون ديمقراطية تونس"؛ أشرت فيه إلى أن "إخوان" تونس تعلموا من تجربة نظرائهم في مصر، وباتوا أحرص على عدم التغول والاستئثار، كما باتوا أقل ميلاً إلى استخدام القهر والعنف ضد مناوئيهم.

كان مسار "إخوان" مصر استبدادياً، وهو مختلف تماما عن المسار التونسي الذي أوجد الإسلاميون فيه فرصة لرئيس انتقالي يساري، وسمحوا بوضع دستور يؤمن بحرية الفكر والضمير، ولا يحول تونس إلى "ولاية فقيه سنية"، ثم حرصوا على أن يوضع هذا الدستور بالمشاركة ومن دون إقصاء.

كانت الثورة التونسية مصدر إلهام لمصر بكل تأكيد، لكن الإسلاميين المصريين كانوا مصدر إلهام من جانبهم لنظرائهم في تونس؛ الذين وجدوا أن أفضل ما يقدمونه لوطنهم وللديمقراطية هو الابتعاد عن كل ما فعله "إخوان" مصر.

* كاتب مصري