قال لي مرة أحد الأصدقاء: إن الله أجمل من أن يحرم ما يبهج قلب طفل!

Ad

كنا حينها هو وأنا وبعض الأصدقاء في بيت صديق آخر، برفقة أسرنا الصغيرة، وكان بيننا من يجيدون العزف والغناء، وكان صديقي هذا مشغولا معظم ذلك المساء بمراقبة طفل لأحد الأصدقاء لم يتجاوز الثانية من عمره، ولاحظ أنه كلما بدأ العزف والغناء ترتسم على وجه ذلك الطفل ابتسامة كبيرة منيرة، وكأنما السماء تنفض من ردائها أنجماً تتساقط من ذلك الوجه الملائكي الصغير، وفي الوقت ذاته يحرك الطفل يديه إلى الأعلى بطريقة عبثية، وكأنما يحاول الإفلات من أحزمة مقعده الصغير ذي العجلات في شبه محاولة للرقص، كان يفعل ذلك من دون أن يصدر صوتاً، فقط شبه محاولة للرقص في ظل ابتسامة وارفة، وعندما يتوقف الغناء وتبدأ الأحاديث وتعلو الضحكات بين الموجودين، لم يكن ذلك الطفل يكف عن الضجيج والبكاء، مع محاولات تكاد تكون مضنية من أمه لتهدئته، إلا أنه لم يكن ليهدأ تماماً إلا عندما يعاود الأصدقاء الغناء!

التفت إليّ صديقي وأردف قائلا: إنما صدقُ الفتاوى في قلوب الأطفال!

كان ذلك منذ سنين بعيدة.

أتذكر هذه الحادثة وأنا أقرأ هذه الأيام وسماً متداولا أنشأه البعض في "تويتر"، محرضا ضد الموسيقى وسماع الأغاني، وأحدث جدلا واسعا بين مؤيد ومعارض، وكعادة المؤيدين لحرمة الأغاني ذكّروا بالرصاص الذي يُصب في أذن مستمعي الموسيقى وعذاب القبر ونار جهنم التي سيصلون فيها، لأنهم طربوا ذات يوم لصوت بيانو، أو شدت قلوبهم حبال شجن مجدولة بأوتار كمنجة!

لم يكن صديقي الذي يستقي الفتاوى من قلوب الأطفال وبراءة ابتساماتهم شيخ دين، ولا كنت أنا ضليعا في هذا المجال، إلا أنني سمعت وقرأت لبعض الذين لهم باع في هذا البحر الشاسع، ومنهم من هو حاصل على أعلى الشهادات في الشريعة، وله بحوث عديدة في علوم الدين، من ينفي حرمة الموسيقى والغناء، وتحدوا أن يكون هناك نص صريح بذلك، وفندوا الأحاديث التي تقول بذلك ودحضوها بالحجة، وردوا على ما ذهب إليه بعض المشايخ في تفسير بعض الآيات، وقالوا لو أن الموسيقى بهذه المنزلة من الحرمة، لما ترك القرآن أمرها للتأويل، ولوردت نصوص بينة صريحة بخصوصها، كما ورد بالزنى والخمر وغيرهما من الآثام، وإن حكم الموسيقى والغناء نابع مما يحويان، حيث قبيحهما قبيح وحسنهما حسن، ولكن المعارضين لهؤلاء من رجال الدين الآخرين لم يحتملوا مثل هذا الاجتهاد وحاربوا أصحابه الذين هم أيضا من المشايخ حرباً ضروساً وشرسة حتى كادوا يكفّرونهم، وربما بعضهم قد فعل!

وحتى هذه اللحظة لايزال الجدل قائما بين الفريقين، ومازال الخلاف بينهما شائكاً لم يُحل، ولم يتزحزح أحدهما عن موقفه قيد أنملة، أو مقدار "دو" في السلّم الموسيقي!

وأظن أن التقريب بين وجهتي النظر بعيد جداً، ولكن إلى أن يحدث ذلك بينهما، سأتبع الفتوى الصادرة من قلوب الأطفال كما فعل صاحبي، مطمئناً إلى أن هذا الخلاف سيبقى إلى ما شاء الله، ما سيتيح لي متسعاً من الوقت لملء روحي بجمال النغم وسحر الأصوات!