لعله من قبيل المصادفة أن تتزامن قراءتي لرواية "الورد لك... الشوك لي" لسليمان الشطي مع قراءتي لرواية "في الهُنا" لطالب الرفاعي. ولعله من قبيل المصادفة أيضاً أن أجد طرحاً لإشكالية "سني/ شيعي" في بعدها الاجتماعي والإنساني في كلتا الروايتين، وظهورها كثيمة جديدة التناول في أدبيات القصّ المحلي. وهو سبْقٌ لم تبادر إليه الدراما المحلية إلى الآن –على حدّ علمي- رغم عراقتها وأسبقيتها في تناول قضايا الواقع الاجتماعي، إذ يبدو أن الحساسية المفترَضة

Ad

لاتزال تسدّ الطريق أمام هذا اللون من التناول.

في استعادة ذهنية سريعة لأعمال الشطي، يُدهشك تخصيصه هذه الرواية لصوت المرأة كراوية وحيدة، وهو ما يفعله الكاتب للمرة الأولى، إذ إن الأصوات الرجالية كانت الأكثر حضوراً في أعماله السابقة، بينما ترِد الشخصيات النّسائية وتتلامح في ثنايا القصّ مروياً عنها، أو تأتي مدغمة في فسيفساء اللوحة الاجتماعية لتكمل المشاهد في بنية القصّ.

 في "الورد لك... الشوك لي" لم تقف المسألة عند تكريس العمل لصوت "فوزية" الوحيد، إنما كان هناك تعاطف وفهمٌ كبيران لهموم امرأة تعاني مأزق المتناقضات الاجتماعية التي كانت هي إحدى ضحاياها، فتخصصها العلمي لم يحمها، فضلاّ عن ثقافتها المنفتحة، من سيف التقاليد أو من رجعية الفكر والثقافة المجتمعية، التي جرّتها أخيراً إلى القضاء والمحاكمة لتسدد ثمن جرأتها على الخروج عن "القطيع". كانت تعتقد بأحقيّة أن يكون لها هذا الموقف الحياتي الذي اختطته لنفسها منذ البدء، لكنه في النهاية لم يؤتِ أكُله إلا ثماراً مرة وقطافاً فجّاً.

ذات المتناقضات الاجتماعية العسيرة تتلامح برواية "في الهُنا"، فمسيرة الزمن ومتغيراته المحلية لم تمسّ الثوابت ولم تزعزع ما وقرّ في النفوس، فالأب الليبرالي المثقف المنفتح يظل تقليدياً قحّاً إزاء زواج ابنته من غير مذهبها، والابنة رغم تحرر إرادتها لا تستطيع معاندة الواقع الاجتماعي، وتظلّ إلى نهاية الرواية متأرجحة بين خيوط الأعراف وغير قادرة على اتخاذ قرار زواجها.

بل حتى كاتب الرواية ووجوده كشخصية أساسية في بنية النَّص، لم يقدم حلاً وترك الخيوط متشابكة، فهو لم يخرج حتى عن الموقف التقليدي المعتاد الأشبه بالرفض المبطّن، وتملّص من المشكلة الماثلة أمامه بالتوسّل بمشكلة أخرى، وهي رفضه المبدئي لوجود ضرّة أو زوجة أخرى في حياة المتقدم للزواج من "دلال"!

كذلك حين يتلامح الماضي ويتقاطع مع الحاضر في كلتا الروايتين، فهو ليس فعل حركة إلى الأمام، إنما مراوحة لا تقدّم لنا غير رؤية أفقية، حيث الأشياء والركامات والأعباء النفسية لاتزال تتجاور وتتآخى في بانوراما ترفض التزحزح والخروج من أسر الزمن.

فالقصص تعيد نفسها، والابنة هي الأم ذاتها عند الشطي، ومخاوف العمة حول زيجة المختلف مذهبياً تُصدّر معلّبة إلى ابنة الأخ عند الرفاعي، وهكذا.

 ثم يأتي عنوان "في الهُنا"، وكأنه دلالة الثبات للتقاليد وعدم القدرة على الخروج من أسرها، تماماً كالارتهان لمكان الكتابة وآلامها الجسدية والنفسية. وكذلك يبقى "الشوك" شوكاً في طريق النساء غير المعبّد، بينما يُقطف "الورد" على هوى زارعه وساقيه، ويُنضّد كما تريد له مشيئة التقاليد والأعراف ومشيئة واضعيها.

أمام هذا الركام من الصور والمشاهد الآخذة بتلابيب مجتمعنا المحلي، والغائصة في طين عاداته وتقاليده، يعود إليّ السؤال القديم المتجدد حول: لماذا نكتب؟! أو في هذا المقام: لماذا نروي ما نعرفه سلفاً؟! فهل الأدب لايزال مجرد مرآة نرى فيها ذواتنا، كما تقول نظرية الانعكاس البائدة؟ وما فائدة الرؤية المسطّحة في مرآة باردة وغبيّة

مادامت الصور هي هي، والوجوه ذاتها، والحكايا تتكرر وتنداح في دائرة مغلقة؟

أما سؤال: هل يستطيع الكاتب أو المثقف أن يغيّر؟ فهو بالتأكيد ليس سؤالاً محرّماً أو مجرّماً، ولكنه سؤال تائه، أو بالأحرى تحوّل إلى سؤال فلسفي مثقل بالاحتمالات والتأويلات. ولا يبقى إلا أن نراوغ هذا السؤال بالاتكاء على متعتين من متع هذا الفن الكتابي هما: القصّ والتلقي. وكفى بهما هدفاً ومستراحاً.