كل قلعة زرتها في إنكلترا وجدت ماضيها حيا يرزق فيها، كأن الحياة لم تغادرها، وكأن المكان ومن عاشوا فيه لم يبتلعهم زمنهم الذي رحل من قرون وتركهم مصبرين ومحنطين في عالم تجمد في مكانه، ونساهم في لحظتهم تلك حين غادرهم على عجل، وأبقاهم في امتداد زمني لا يعرف الأفول، وكل الأزمنة التي مرت عليهم أدركتهم وتشاركت التاريخ معهم، فبريطانيا العظمى تقدس تاريخها كله وتفتخر به إلى حد عبادته، فكل حدث وتفصيلة مؤرخة ومسجلة وقائعها بشكل حي وكأنها لم تغب ولم يُمح زمنها ووجودها فيه.

Ad

ومن أجل حبس وقائع حياة وزمن من عاشوا في حقبة معينة، عملت انكلترا خطة للمحافظة على القلاع والقصور والبيوت وكل الأمكنة التي يرتبط وجودها بالتاريخ البريطاني، بالمحافظة عليه بشكل يبقيه بالصورة التي كان عليها بكل مواصفات زمنها ومكانها، والعمل على رصف ذاكرة مكانها ودعمه بالمخطوطات والوثائق والصور والمذكرات والمؤثرات الصوتية والسينمائية والموسيقية، إلى جانب أزياء وأثاث وفنون ومشغولات وطرز بناء وتشكيل هندسة القصور والكاتدرائيات والكنائس والحدائق.

كل ما سبق ذكره يُبقي ذاكرة الأمكنة حية كما كانت، لكن الأهم من كل هذا هو ربط الماضي بالحاضر بشكل يُبقيه مرتبطا برباط وثيق معاصر، وذلك بإعادة بث حياة هذه الأمكنة واستعادة ماضيها عن طريق تعليم وإحياء أساليب ونظم وأشكال حياة من كانوا فيها، لذا تقوم هذه الأمكنة بتقديم أنشطة وكرنفالات وحفلات ثقافية تعليمية تبث حياة عصر بكامله بكل أساليب ووقائع حياته، مما يربط الناس بماضيهم المستعاد، فمثلا قلعة "وريك" التي هي واحدة من أهم قلاع انكلترا وأعظمها تقدم أنشطة لتعليم الأطفال حياة الفرسان الذين عاشوا في ذاك الزمن، وذلك عن طريق تدريبهم على القتال بالسيوف بعد أداء     شرف القسم ثم بدء المعركة عن طريق ضرب العدو الذي هو جذع شجرة مربوط بالحبال، وهناك في الأقسام الأخرى يتم التعليم على القتال بالرماح، وأيضا القوس النشابة، ورمي القرص والجلة والتصويب، وركوب أحصنة من خشب، ومشاهدة عرض المنجنيق، وقتال الفرسان في ساحات الحروب، وتدريب النسور والبوم على الاصطياد ومطاردة الفرائس، إلى جانب بيع ملابس الأميرات والفرسان وأدوات زمنهم التي يفرح بارتدائها الأطفال ويتمثلون بمعايشة زمنها الذي يدرسونه نظريا في مدارسهم، ويدركونه كواقع معيش في أمكنته الحقيقية، كما سُميت كل أماكن تناول الأطعمة فيها إلى أسماء لها علاقة بتاريخها، فمثلا هناك ميدان ألهوت دوق، قلعة الدونت، وسوق الإسطبل، ومعرض السيوف وغيرها مما يرسخ ويربط الماضي بالحاضر باستدامة لا تنفصل لتاريخ لا يعرف الموت.

حياة اليوم لا تنفصل عن ماضيها، فقط الدول العظيمة وحدها تُدرك ما أهمية التاريخ لتربية حياة ووجدان مواطنيها، فعظمة وعمق ماضيها هو الأساس الذي يُبنى عليه حاضرها، فأمة بلا ماض هي أمة بلا حاضر.

في بلادنا العربية والخليجية توجد قلاع وقصور كثيرة لكن للأسف لا يوجد برامج ولا أنشطة تعيد بث حياة زمنها وسيرة مكانه، وقد زرت قلاع كثيرة منها ولم أجد إلا جدران خالية وأمكنة تشكو فراغها من ذاكرتها، فمثلا هناك قلاع وحصون رائعة في عُمان واليمن لا تملك أي توثيق حي لحياتها وماضيها السابق سوا بعض من مطبوعات تعريفية مقتضبة لا تستعيد تاريخ زمنها وحكايات من فيها، فمثلا في زيارتي الأولى لقلعة محمد علي الرائعة وكنت وقتها في بداية عمر المراهقة وحدة اشتغال الخيال فيها، فكنت أقيس بنظري ارتفاع سورها وقدرة المملوك الشارد على تخطيها، بعد مذبحة المماليك التي تمت فيها، ولو كان في وقتها توثيق سينمائي تصويري موسيقي لأحدث أثرا بالغا في تكوين ثقافتي ومعرفتي بتاريخ زمن وعصر هذه القلعة.

التوثيق والتدوين بكل أشكاله البصرية والكتابية أمر مهم جدا لتسهيل وتعميق وربط الشبيبة بماضي تاريخهم، فمثلا لو عُملت أنشطة وبرامج توثيقية للقصر الأحمر في الجهراء، وبيت القرين، وبيت العثمان، وبيت سعود، لكان من السهولة المحافظة على سيرتها واستعادة تاريخها، وهناك مواقع أخرى تحت الترميم الذي يشرف على انجازه المجلس الوطني للآداب والثقافة والفنون، فياليت ينتبه المشرفون عليها بوضع بيانات توثيقية مثل التي تقوم بها انجلترا لتُحي تاريخ تراثها كله، وتعيد بثه في وجدان مواطنيها.