رأي : نظرة تفاؤلية للمستقبل رغم الاضطرابات الجيوسياسية

نشر في 29-09-2014
آخر تحديث 29-09-2014 | 00:01
 بلاك ستون في كلّ صيف على مدى العقود القليلة الماضية، دأبتُ على تنظيم سلسلة من لقاءات الغداء للمستثمرين الجادّين الذين يفدون إلى الطرف الشرقي من منطقة لونغ آيلاند بولاية نيويورك لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في جوّ لطيف وطبيعة ساحرة تساعدهم على الاسترخاء بعيداً عن الضغوط التي تميّز عادةً نمط حياتهم. وفي هذا العام، حضر نحو 90 ضيفاً لقاءات الغداء الأربعة التي نظمتها أيام الجمعة في شهر أغسطس. وكان معظمهم من الشخصيات المعروفة في عالم الاستثمار، بمن فيهم بعض الأثرياء من أصحاب المليارات. وكان منهم مديرو صناديق تحوّط، ومديرو شركات، وناشطون، ومتخصصون في عمليات الاستحواذ، ومستثمرون كبار في قطاعات العقارات والملكية الخاصة وتمويل المشاريع، ما ضمن درجة طيّبة من التنوع من حيث أنشطة أعمالهم اليومية. كانت آراء المجموعة وتوقعاتها إيجابية وصائبة في لقاءات الصيفين الماضيين، ولذلك كنت متلهفاً هذا العام لمعرفة ما إذا كان مزاجهم قد تغير بسبب الاضطرابات الكثيرة التي نراها اليوم في أنحاء العالم.

والجواب هو أنّ جميع هؤلاء المستثمرين تقريباً يعتقدون أن المشاكل الجيوسياسية كلها ستجد طريقها للحل بشكل أو بآخر دون كبير أثر على اقتصاد الولايات المتحدة أو أسواقها المالية. لكن ذلك لم يمنع وجود أقلية ترى الأمور بمنظور سلبي، ومنهم ضيفٌ طرح احتمال حدوث تفجير نووي من قمر صناعي فوق أميركا الشمالية، يطلق نبضة كهرومغناطيسية تعطّل شبكة الكهرباء في أرجاء الولايات المتحدة، ما سيسبب المجاعة والفوضى! كما كان البعض حذراً من المستقبل بسبب تصاعد الصراعات الجيوسياسية. لكن الأغلبية حافظت على نظرتها الإيجابية، رغم أنّ الأزمة الأوكرانية بدأت بالفعل بالتأثير على اقتصادات أوروبا، حيث دخلت إيطاليا في مرحلة ركود، وبدأت ألمانيا، وهي المحرك الاقتصادي للقارة، في التراجع. ولا شك أن انزلاق أوروبا مرة أخرى إلى الركود سيؤثر بشكل أو بآخر في الاقتصاد الأميركي.

ناتج حقيقي

عبّر الحاضرون عموماً عن قلقهم بشأن الأوضاع المتفاقمة في الشرق الأوسط وروسيا وبحر الصين الجنوبي، لكن كل تلك المشاكل لم تمنعهم من الاعتقاد أن مؤشر ستاندرد آند بورز SandP 500 سينهي العام 2014 فوق مستوى 2.000 نقطة، وهو رقم قد يصل إليه قريباً، فقد كان المؤشر عند مستوى 1.930 نقطة مع انطلاق لقاءات الغداء لهذا العام. وتوقع معظم الضيوف أن يصل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للولايات المتحدة إلى نحو 3 في المئة في النصف الثاني من هذا العام، بينما رأت أقلية منهم أنّ معدل النمو سيكون بحدود 2 في المئة فقط. أمّا بخصوص سياسة البنك الاحتياطي الفدرالي، فقد توقع معظم الحاضرين رفع أسعار الفائدة قصيرة الأجل قبل يونيو 2015 رغم تراجع زخم الأداء في الاقتصاد الأميركي مؤخراً، وهذا الأمر يبدو معقولاً.

ورأى البعض أنّ أسعار الفائدة المنخفضة كانت تضرّ بالاقتصاد الأميركي أكثر مما تنفعه. ففي حين أنها سهّلت الاقتراض أمام الشركات والمطورين العقاريين ورفعت قيمة الأصول المالية، إلّا أنها أضرّت بأولئك الذين يعيشون على الدخل التقاعدي، لأن مدخراتهم من أدوات الدخل الثابت قصيرة الأجل حققت عائدات أقل من 1 في المئة، بدلاً من 5 في المئة كما في السابق. وبالنظر إلى أن هؤلاء الناس ينفقون عادة كامل دخلهم المتواضع، في حين لا ينفق العُشر الأعلى دخلاً سوى جزء يسير من إيراداتهم، فإن مشتريات المستهلكين تباطأت بسبب انخفاض أسعار الفائدة. لكن بما أن كلّ الحاضرين في لقاءات الغداء يستفيدون من صعود قيمة الاستثمارات، فقد كانوا يشعرون بالقلق من احتمال ارتفاع أسعار الفائدة، مع أنّ أحدهم أشار إلى أنّ تأثر أسعار الأسهم يتطلب عادةً عدة زيادات متعاقبة في أسعار الفائدة قصيرة الأجل من قبل الاحتياطي الفدرالي، رغم تقلبات السوق التي تثيرها أي علامة على تشديد سياسة الاحتياطي الفدرالي.

لم تشهد الولايات المتحدة الكثير من مشاريع المباني التجارية أو الفنادق الجديدة رغم انخفاض أسعار الفائدة، وزيادة الطلب طوال فترة الانتعاش، حيث كانت الأموال تأتي من جميع أنحاء العالم للاستثمار في العقارات المبنية في الولايات المتحدة. كما لم تستفد قطاعات تجارة التجزئة كثيراً، وقد تبقى كذلك لبعض الوقت بسبب تأثير التسوق عبر الإنترنت.

وشهدت لقاءات الجمعة نقاشاً مفيداً حول وتيرة التطورات التقنية. فقد رأينا الكثير جداً من الابتكارات التقنية منذ عام 1980، لدرجة أنني شككت في أن تكون العقود الثلاثة المقبلة بمستوى العقود الثلاثة الماضية. لكنّ أولئك الذين يتصل عملهم بالابتكارات الحديثة عارضوا تلك الفكرة بشدة، وذكروا أن ريادة الأعمال في وادي السليكون تشهد زخماً هائلاً، وتواصل الشركات الناشئة تطوير أفكار ستغير العالم بوتيرة أسرع مما رأيناه في الماضي. وربما نرى تحسينات كبيرة في مجالات الرعاية الصحية والإنتاج الزراعي واستهلاك الطاقة، وعدد من الميادين الأخرى. لكن ذلك سيترافق ببعض الأضرار الجانبية، حيث ستفضي بعض الابتكارات إلى خفض الوظائف، وستصبح شروط التوظيف أشد صرامة، ما يتطلب من المرشحين للوظائف مستوى أعلى من التعليم والكفاءة والإنتاجية. واليوم، توجد نحو 4.6 ملايين فرصة عمل متاحة في الولايات المتحدة، لكن معظم العاطلين عن العمل لا يملكون المهارات اللازمة لملء هذه الشواغر.

هجمات إلكترونية

وهناك أيضاً مخاطر الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت والتي يمكن أن تؤثر على نوعية حياتنا، حيث قال بعض الحاضرين المطلعين إننا كنا أذكياء ومحظوظين في الوقت ذاته لعدم تعرضنا لكارثة كبيرة من هذا القبيل حتى الآن، حيث يسعى قراصنة الإنترنت، والكثير منهم من أوروبا الشرقية وآسيا، لاختراق نظامنا المصرفي. ولاشك أن تعطيل قدراتنا على إجراء الأعمال في حال تعرضت مؤسسة مالية كبرى لمشكلة توقف عملها سيكون له تأثير على عموم الاقتصاد. ويتمثل الخطر في أن يسبق قراصنة الإنترنت ويتفوقوا على مزودي حلول الأمن الرقمي، ولا يمكن تجاهل إمكانية حدوث ذلك على مدى السنوات القليلة المقبلة.

أمّا بالنسبة لفئات الأصول الأخرى، فلم ألمس لدى الحاضرين أي اهتمام بالذهب، على عكس السنوات الماضية. ويعتقد بعض المستثمرين الشباب أن قبول العملة الافتراضية "بتكوين" سيتوسع أكثر. لكن السلع عموماً لم تكن محط اهتمام الضيوف.

وأشار البعض إلى اعتقادهم أن تطور تقنية استخدام المغذيات النباتية من شأنه أن يرفع الإنتاج الزراعي. كما رجح معظمهم بقاء سعر النفط قريباً من مستوياته الحالية، فعلى الرغم من استثمار تريليونات الدولارات في أعمال التنقيب والحفر على مدى السنوات الماضية، فإن الإنتاج بقي ثابتاً بسبب انخفاض مساهمة نيجيريا والعراق وليبيا. وتعمل الولايات المتحدة وأوروبا على خفض استهلاكها من الوقود الأحفوري، لكن هذا يعاكسه زيادة الطلب من العالم النامي، وخاصة الصين.

وفي ما يتعلق بالأسواق العالمية، كان هناك قلقٌ واضح بخصوص أوروبا. حيث بدأ تأثير الأزمة الأوكرانية يصبح واضحاً في ألمانيا، ما اضطر ماريو دراغي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، إلى تقديم المزيد من التحفيز النقدي سعياً لإنقاذ أوروبا من الوقوع مرة أخرى في براثن الركود.

وكان معظم المستثمرين أكثر تفاؤلاً بشأن الصين. فقد أظهرت القيادة الجديدة التزامها بمكافحة الفساد، على الرغم من أن تنفيذ الإصلاحات بصورة فعالة سيستغرق وقتاً طويلاً. وربما تشهد البلاد بعض الإخفاقات في القطاع المصرفي، لكن الحكومة ستتخذ التدابير التحفيزية اللازمة لإبقاء معدل نمو الاقتصاد عند مستوى 7 في المئة. ومع ذلك، فإنني أشك في قدرة الحكومة على ضخ الأموال ومنح القروض لفترة طويلة من أجل تحقيق هذا الهدف.

تحسينات متوقعة

بالنسبة للأسواق الناشئة، لمست بعض الاهتمام بأسواق الهند، حيث يعتقد المستثمرون أن بعض الشركات متوسطة الحجم قد تكون جذابة. وقد لاقى انتخاب مودي رئيساً للوزراء حماسة كبيرة من قبل المستثمرين، لكن بعض المحللين يرون أنّ سوق الأسهم الهندية متقدم فعلاً على التحسينات الأساسية المتوقعة، لاسيما في ظل صعوبة تطبيق الإصلاحات التشريعية في بلد يشتهر بالجدل السياسي كالهند. وكان هناك بعض الاهتمام بالأرجنتين كبلدٍ مضطرب فيه الكثير من الأصول المعروضة للبيع الاضطراري بأسعار زهيدة، كما التقيت بعض المهتمين المتفائلين بأسواق المكسيك على أساس التغييرات الدستورية والتشريعية التي تعمل القيادة على إنجازها، حيث تملك البلاد احتياطيات نفطية كبيرة، لكنها تحتاج إلى تحسين بنيتها التحتية. ويمكن للمكسيك أن تستفيد من قوة النمو في الولايات المتحدة، ولكن الأمن الشخصي فيها لايزال مشكلة تحتاج إلى معالجة.

بشكل عام، عندما أستعرض في ذهني النقاشات التي شهدتها اللقاءات الأربعة، فإنني أجد من اللافت للنظر مقدار التفاؤل إزاء مستقبل الاقتصاد الأميركي على الرغم من الظروف غير المستقرة في أنحاء العالم. وأتساءل عن إمكانية استمرار سير الاقتصاد الأميركي على طريق الازدهار في ظل المشاكل الكثيرة التي تشهدها مناطق أخرى. وعلينا ألا نغفل تهديدات الحرب الإلكترونية والإرهاب، كما أن نظامنا السياسي يبدو غير قادر على الاستجابة للتحديات التي تواجه الولايات المتحدة، مثل قضية فجوة الدخل التي تزداد اتساعاً، فهل يمكن للاقتصاد الأميركي أن يمضي قدماً بوتيرة مرضية مع استحداث فرص العمل المطلوبة، في مواجهة هذه التحديات مجتمعة؟

* بايرون واين ، نائب رئيس شركة بلاك ستون

back to top