أردوغان ضد أردوغان!

نشر في 08-03-2015 | 00:01
آخر تحديث 08-03-2015 | 00:01
 ياسر عبد العزيز إذا استمر أردوغان في ممارساته الحادة الراهنة، فربما يأخذ تجربته السياسية إلى نهاية تكون العبرة منها أن "الدول الإسلامية لا تتوافق مع شروط الديمقراطية"، بدلاً مما كان متوقعاً من تجربته التي أعطت الأمل في تكريس الاعتقاد بأن العالم الإسلامي قادر على التوافق مع قيم الحداثة في المجال السياسي.

كانت لدى الرئيس التركي أردوغان فرصة كبيرة لكي يبرهن على قدرة دولة من دول العالم الإسلامي على بناء نظام علماني ديمقراطي، وتحقيق درجة من النمو المستدام، في ظل سلام وانفتاح اجتماعيين، لا يتجاهلان القيم الأصيلة، ولا يطمسان الهوية الوطنية.

إن أردوغان يضيع هذه الفرصة من خلال سلوك سياسي حاد وغير متزن، بات محل نقد واعتراض كثيرين داخل تركيا وخارجها.

في الأشهر القليلة التي تلت فوزه بمنصب الرئاسة، اتخذ سلوك أردوغان منحى شديد الحدة، لدرجة أن كثيراً من المحللين بات يربط بينه وبين السعي إلى بناء حكم ديكتاتوري.

ثمة ثلاثة انتقادات رئيسة يمكن أن توجه إلى أردوغان اليوم من دون قدرة كافية على دحضها؛ أولها هجماته الشرسة على معارضيه ونقاده بما يحد من حرية الرأي والتعبير، وثانيها تغوله على السلطة من دون سند دستوري واضح وصريح، وثالثها أنماط الأداء السياسي المعيبة، وميله إلى الاستعراض، واستخدام الخشونة، ومحاولة إعادة إنتاج قيم العصور السلطانية، في جوانبها البروتوكولية والشكلية والسلطوية، وليس في جوانبها الموضوعية الإيجابية الأخرى.

سيُدهش كثيرون من أنصار أردوغان حينما يعلمون أن هذا الزعيم الذي وصل إلى سدة الحكم عبر انتخابات ديمقراطية يضطهد صحافيين وإعلاميين، ويحارب بعض وسائل الإعلام، ويستخدم أدوات خشنة ضد حرية الرأي والتعبير، ويسيء استخدام الصلاحيات القانونية، ويستخدم بعض المواد القانونية كسلاح لمعاقبة نقاده وترويعهم.

لقد فتح القضاء التركي أكثر من 80 ملفاً استناداً إلى المادة 299 من القانون الجنائي التركي، وهي المادة التي تجرم "إهانة الرئيس"، والتي أعاد أردوغان إحياءها ويستخدمها على نطاق واسع.

من بين تلك الملفات تظهر بعض الحالات التي تثير الكثير من الدهشة والاستياء، إذ يواجه طالب مدرسة عمره لا يتجاوز 16 عاماً عقوبة السجن لمدة أربع سنوات وفق نص المادة 299، بعدما ألقت الشرطة القبض عليه، بتهمة إهانة الرئيس، لكتابته عبارات تطعن في ذمة أردوغان على خلفية اتهامات طالته، وبعض أفراد أسرته وإدارته، بالفساد.

ليس هذا فقط لكن ملكة جمال تركيا السابقة "مروة بويوكسراتش"، والبالغة من العمر نحو 25 عاماً تواجه بدورها احتمالات السجن، بعدما تم حجزها لفترة قصيرة، لأنها "نشرت على حسابها الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي "تويتر" كلمات اعتُبِرت سخرية من أردوغان واتهاماً له باللصوصية".

تتراجع حرية الرأي والتعبير في ظل رئاسة أردوغان باطراد، لدرجة أن "سيبلا أرتشان"، المسؤولة عن الجمعية التركية لحقوق الإنسان رأت أن "الفترة التي تمر بها تركيا راهناً تعد الأسوأ على صعيد حرية الرأي والتعبير على مدى نحو عقدين".

إن أردوغان الذي أغلق "تويتر"، و"يوتيوب"، وهدد بإغلاق "فيسبوك"، وهاجم وسائل إعلام بعينها، وسعى إلى تقويض قدرتها على الاستمرار في الصدور، بات أحد أعداء حرية الرأي والتعبير بامتياز، وهو أمر أضحى موضع انتقاد الكثير من المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والديمقراطية والحكم الرشيد.

أما المأخذ الثاني الذي يؤخذ على هذا الزعيم فيتعلق بتغوله على السلطة بشكل حدّ كثيراً من سلطات خلفه في موقع رئيس الوزراء (أحمد داود أوغلو). ويُعتقد على نطاق واسع أن أردوغان الذي يحضر اجتماعات مجلس الوزراء بانتظام، ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة من أعمال السلطة التنفيذية، ما زال يتصرف بوصفه رئيساً للوزراء، على عكس ما تنص عليه النصوص الدستورية.

يمثل هذا السلوك انتهاكاً لقواعد الحكم الرشيد، وإطاحة بالمعايير والالتزامات التي أوجبها الدستور؛ بشكل يهدد قدرة الدولة على الفصل بين السلطات، وتحقيق الديمقراطية.

ويضاف إلى الانتقادين السابقين للتطورات التي طرأت على السلوك السياسي لأردوغان انتقاد ثالث لا يقل خطورة، فقد أصبح هذا الزعيم أكثر إسرافاً في الممارسات الاستعراضية التي تعكس ميلاً للتشبه بالحكام مطلقي السلطة والنفوذ في العصور الوسطى.

لقد أثار إصرار أردوغان على بناء قصر رئاسي جديد بكلفة بلغت نحو نصف المليار دولار استهجاناً كبيراً، فضلاً عن سعيه إلى إعادة إنتاج الصورة التي كانت عليها قصور سلاطين الخلافة العثمانية وكأنه "يمثل فيلماً تاريخياً"، إلى حد أنه ألزم حراسه بارتداء ملابس تعود إلى عهد الخلافة، أثناء استقبالات رسمية لزعماء أجانب، في مشاهد استفزت الكثيرين، ولم تترك لأنصاره ذرائع مناسبة للدفاع عنه.

لا يجادل أحد في أن أردوغان استطاع، خلال ثلاث ولايات متتابعة في منصب رئيس الوزراء، أن ينقل تركيا نقلة حقيقية إلى الأمام، فقد تسلم هذا الزعيم زمام الأمور في وضع صعب، لدولة مديونة، مرافقها متداعية، وأداؤها الاقتصادي هزيل، وموقفها الإقليمي والدولي مهزوز، لكنه نجح في أن يصل بها إلى وضع مرموق، إثر قدرته على علاج الاختلالات، وقيادة البلاد إلى الأمام بقوة.

باتت تركيا في عهد أردوغان إحدى الدول المتقدمة في المجالات الصناعية والاستثمارية، كما انتعش القطاع السياحي بها انتعاشاً قوياً، وتعزز الإنتاج الصناعي، وتدفقت الاستثمارات الخارجية على الاقتصاد النشط، وتحسن مستوى الدخل الفردي، ليتضاعف عدة مرات.

وكان بوسع أردوغان أن ينصرف من المشهد، ليكرس مبدأ التداول السلمي السلس للسلطة في مجتمع ينشد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ويسعى إلى ضرب مثل على قدرة بلدان العالم الإسلامي على التوافق مع اشتراطات الديمقراطية.

بل كان بوسع أردوغان أيضاً أن يكتفي بأن يكون رئيساً لتركيا، محترماً للصلاحيات التي ينص عليها الدستور، ومكتفياً بدوره كرمز للجمهورية، وحكم بين السلطات، كما كان يفعل سلفه عبدالله غول، إلى حين إجراء تعديلات دستورية مناسبة عقب الانتخابات البرلمانية المقررة في يونيو المقبل.

إذا استمر أردوغان في ممارساته الحادة الراهنة، فربما يأخذ تجربته السياسية إلى نهاية تكون العبرة منها أن "الدول الإسلامية لا تتوافق مع شروط الديمقراطية"، بدلاً مما كان متوقعاً من تجربته التي أعطت الأمل في تكريس الاعتقاد بأن العالم الإسلامي قادر على التوافق مع قيم الحداثة في المجال السياسي.

* كاتب مصري

back to top