في «النسوة يستقين الماء من النهر»، ترجمة سعدي يوسف، يظهر الفيتنامي نغوين كوانغ ثيو شاعراً جديداً، يدير ظهر قلمه للماضي الأحمر المثقل بالآلام، ويحتضن أرضه محدّقاً من نافذة الحاضر إلى غد يزيّن جبينه تاج الحياة. ويستهل ثيو بوحه بأغنية قريته: «أغنية قريتي»، وفيها ينقل الحياة اليوميّة بانتقاء وترتيب خاصّين جدّاً، ويختار أمكنة ذات استجابة لعاطفة تتغلغل في لاوعي قلبه، أمكنة تقول رجلاً وامرأة في نوم، وحليب أمّ يتألّق أيقونة في عنق ليل، وبراعم يرتاح ربيعها في أغصان وأجساد: «في مكان ما يتكلّم رجل في نومه / جنب شعر امرأة متهدّل / في مكان ما يفوح حليب أمّ / مفعماً بالليل، / في مكان ما تتفتّح من الأرض كالبراعم نهود فتيات الخامسة عشرة».
ويمضي ثيو إلى قنديل الزيت القديم الموشوم برائحة أصابع الأجداد، والذي علّمه أبجديّة الحب والحزن والبكاء: «يوم ولدتُ وضعته أمّي قبالتي / كي أرى وأتعلّم، كيف أحزن / كيف أحبّ وكيف أبكي». أمّا حبل السّرّة فهو العائد إلى تراب ليتشكّل دودة يحلو لها الزحف في ظلال الماء والموت، راسمة المشهد الذي ترضع فيه الحياة موتاً والموت حياةً، كأنّ هذا الحبل الصغير مفتاح يفتح باب بيت ويمضي منتظراً بلا ضجر ليعود ويفتح باب القبر بعد حين: «أغنّي من خلال حبل السرّة / الدفين هنا ليكون دودة أرض / تزحف تحت جرّة الماء / تزحف على حافّة البركة/ ... تزحف في قبور المساكين / دافعة إلى أعلى، في طريقها، تراباً أحمر كالدّم».حراسة الحزن وتبدو ماهيّة ثيو طاعنة في العاطفة حتى في عالم الماوراء، فهو إذ يعبر موته بتنازل عن إنسانيّته لصالح الكينونة الحيوانيّة إنّما لغاية نبيلة وهي حراسة الحزن الذي يتفرّد ليكون جوهرة قريته الوحيدة: «... وفي الآخرة سأكون حيواناً / سأسأل أن أُبعث جرواً / لأحمي الأسى / جوهرة قريتي». وعلى ضفاف «نهر داي»، يستلقي الشاعر، يتّسع بحراً لنهر آتٍ من الحياة وعائد إليها، آتٍ بخرير يغنّي الأمومة العائدة من الحقل بسلال الخير: «نهر داي يصبّ في حياتي / مثل أمّي إذ تعود إلى البيت، من البوّابة بسلال مثقلة رزّاً في الغروب»، وتبقى صورة الأمّ أميرة المشهد، ويستمرّ شعرها ناثراً ظلاله على امتداد الألم: «شعر أمّي يظلّل ألمي»، وينقل ثيو شيخوخة أمّه ويأتمن رمال النهر عليها بعدما يرصّعها بها، وحين يغمس وجهه في الرّمل يحظى بضالّته، يحظى برائحة شعرها التي لا يدركها النسيان، ويواصل الشمّ إلى أن ينزل رمل من وجهه: «كانت أمّي هرمة مثل الرمال على ضفافِك / حين أشمّها أشتاق شميم شعر أمّي / أركع وأيمّم وجهي بالرّمل / أبكي فيتحدّر رمل من وجهي».وفي «الحقل» يجد ثيو فرحه بعد عودة الناس من الحصاد، ويزوره وحيداً هارباً من قطعان الهواجس: «حين ينتهي الزرع والحصاد / أفرّ من هواجسي، راكضاً إلى الحقل، ثانية»، وإذا غاب صوت الجنادب، فإنّه يسمعه آتياً من حُلوق القرويّين: «أسمع صدى الجنادب / وهي ترفّ بأجنحتها في حلوق القرويّين»، ويعود الشاعر إلى النهر، فيرى نسوته يُرِحْنَه من مائه، وهنّ: «يمسكن عصيّ الكتف بيد / واليد الأخرى تضمّ سحائب بيضاً»، إنّهنّ نساء يملأن جرارهنّ من ماء النهر ويرددن الجميل له غماماً أبيض... وفي قصيدة ثيو يحضر وجه الأب، الذي يترك البيت حين الليل يخسر نصفه: «ليس تماماً كالسكران / يغادر أبي المنزل في منتصف الليل»، ويمتطي قاربه دون أن ينظر إلى الوراء، حيث زوجته تزيد النهر من ماء عينيها، الماء الذي يجذّف فيه الأب البحّار أيضاً: «يركبه أبي بعشرين عاماً في يديه. هو لا ينظر خلفه. / أمّي تغطّي قدميها بالرّمل، ودموعها تسيل في حوض النهر».ويحاول الشاعر أن يكون لأبيه زورقاً بديلاً، وهو واحد من أربعة أولاد ليسوا سوى امتداد لحزن أبيهم. يحاول أن يوصي لغته الشعريّة بسنوات أبيه السبعين والقدمين الهشّتين اللتين لم يعد لهما من سطوة كانت لهما من زمن على الزورق: «أطفال أبي ليسوا منتهى مطافه / هم ليسوا سوى أربع صوى في امتداد حزنه. / ها هوذا يحمل سنواته السبعين / إلى المرسى القديم ويخطو إلى الزورق. / هل يتمايل الزورق لأنّ قدميه ليستا ثابتتين، أم لأنّه يرتعد خوفاً؟»عرق ودماء لا يستطيع ثيو أن ينجو من طبيعة قريته المجبولة بعرق أهلها ودمائهم، والحاضرة دوماً في سعيهم اليوميّ، كأنّها رَحم عملاق أنجبهم وبقوا في داخله وفي خارجه، في الوقت نفسه. كما أنّه لا يقدر على التحليق بعيداً من حضور الأمّ المستعمر لغته الشعريّة شادّاً إيّاه بخيوط الطفولة الذهبيّة التي لم تنل منها شمس العمر المحرقة. فهو متفرِّغ لعدّ ما يسقط من شعر أمّه: «شعرة منك سقطت البارحة / بضعة من حياتك مضت بلا صوت»، إلاّ أنّه لا يقف مكتوف اليدين أمام قساوة الشيخوخة، ويلجأ إلى الحلم عساه يجعله: «برغوتاً صغيراً بريئاً» كي يزحف في غابة شعرها، ويغنّي «أغنية العتمة في أريجه»، أو عساه يلفّ قدميه بالأزهار ليتسلّل إلى إغفاءة أمّه صامتاً ويكون بديلاً من شعرة سقطت مالئاً فراغاً فيها، يعزّ عليه أن تملأه الشيخوخة والعجز: «دعيني أنتعل أزهار الفجر/ وأتسلّل بلا صوت في رقادك. / سأكون بديل شعرتك التي سقطت، وأغنّي عن سحائب شعر تطير ليل نهار». ولم يستطع ثيو تجاهل أرامل الحرب في قريته، وإن هو لم يكن أسيرها شعريّاً. فرسم هؤلاء النسوة رسماً تقريبيّاً ورأى زمنهنّ سجين مزهريّة يفوح عطرها حِداداً: «الزمن يجري في مزهريّة عتيقة ضخمة»، وانتبه إلى أنّهنّ حافيات، كي لا تغريهنّ درب إلى ليل مقمر: «أراملي، أمثولاتي، لا ينتعلن أحذية أو أخفافاً، إنّهنّ يتجنّبن الدروب المؤدّية إلى الليالي المقمرة». وكذلك انتبه إلى أنّهنّ يحملن أثداء ثقيلة ترفض الاستجابة لأيّ إشارة ذكوريّة، وتتحاشى الرجال الطالعة منهم رائحة التبغ: «أثداؤهنّ متعبة وقاسية من السماع، أثداؤهنّ لا تطيق أن تسمع نداء الرجال، الذين تفوح منهم رائحة التبغ»... إنّهنّ نساء يتسلّقن أجسادهُنّ سلالم إلى أبراج حزن شاهقة... في «النسوة يستقين الماء من النهر» ينسج الشاعر الفيتنامي نغوين كوانغ ثيو عطراً شعريّاً يختصر الأرض الحميمة وأهلها، ينشد جمالاً لا يجود به غير حدائق الأحاسيس وفراشات الخيال التي لا ترفّ بعيداً من ربيع العاطفة.
توابل - ثقافات
نغوين كوانغ ثيو يركز على الأمهات الثكالى
12-03-2015