صهيل النهر رواية للكاتبة السودانية "بثينة خضر مكي" لها 5 مجاميع قصصية و3 روايات وكتب للأطفال ومقالات، إلى جانب أنها كاتبة أيضاً هي عضوة في البرلمان السوداني ومؤسسة لرابطة الأديبات السودانيات، التقيتها أكثر من مرة في ملتقيات أدبية ومؤتمرات ثقافية خارج الكويت، وكل لقاء أسعد بصحبتها الودودة المحبة المتواضعة، وللأسف لم أقرأ لها وأظنها لم تقرأ لي، وغالباً ما يحصل هذا نكون على معرفة بالاسم فقط من دون معرفة كتاباتنا، التي نتبادلها برغبة صادقة لقراءتها وتكوين معرفة أعمق وأوضح مع كاتبها، لكن الانشغالات الحياتية وتراكم الكتب فوق بعضها ينسينا النية تجاهها إلى أن نكتشفها مرة أخرى، وهذا ما حصل مع رواية صهيل النهر ومجموعة رائحة الخريف للصديقة بثينة خضر مكي، وقد استمتعت بقراءتها خاصة أن كتابتها تكشف عن واقع المرأة السودانية والمجتمع السوداني بعاداته وتقاليده وأسرار بلاد نائية ومجهولة لنا، فالحروب الأهلية ما بين الشمال والجنوب مزقت أوتاره وباعدت عملية التواصل المعرفي والسياحي مع السودان وأبقته في عزلة محلية بعيدة عن التواصل العربي الخليجي، وكما كتبت بثينة: "القوات التي تحارب جيش الحكومة بعد أن كبد البلاد الكثير من الجهد والمال والانكسار العاطفي، تعلقت أحزان أبناء الشمال فوق قمم أشجار النخيل وتبرعمت مع لوزات القطن وتشتت خيباتهم مثل بذور السمسم وهم يبكون شهداءهم ضحايا الغدر والخيانة".

Ad

رواية "صهيل النهر" قصة امرأة تنفصل عن زوجها بسبب زواجه لأجل الإنجاب، ومع حبها لزوجها وحبه العظيم لها إلا أنها لم تستطع مسامحته، فتغادر إلى جنيف لتعيش بعيداً عنه، وهناك تلتقي بصديقة مهاجرة مثلها وتعاني الوحدة ومتاعب الاغتراب، وهنا تربط بثينة ما بين حكايتها كمهاجرة ومغتربة وبين حكايات متعددة آتية من قصص الناس في القرية ومنهم عمتها وبنتها ومعارفها وأقرباؤها، مغزولة ومضفرة مع قصص التراث السوداني الآتية من عمق جوهر الروح السودانية، مما منح الكتابة خصوصية محلية دافئة كما جاء في حكاية "فاطنة السمحة قصب السكر" التي تم إسقاطها على حاضر المرأة السودانية المعاصرة، القصة بحد ذاتها تكشف عن ثراء في التخيل في الموروث الحكائي السوداني.

الرواية تكشف للقارئ السودان الذي لا يعرفه بأجوائه المجهولة الغامضة، بعاداته المختلفة عنا والتي لا نعرفها وما زالت مضمخة ببدائيتها وبراءتها وبروائحها وأصواتها وأنفاس من فيها، كل حكايات الناس وأفراحهم وأوجاعهم وطرق معيشتهم، لدرجة تُشعر القارئ بالعيش معهم ويتنفس أوجاعهم وأحلامهم، وتشعره بنهر النيل وفيضانه وتأثيره عليهم وبصياد تماسيحه،" تتدحرج كرة الشمس الذهبية، طلل الظل هائما يشف فوق ألق الموج- يرتعش الموج، يجيء الظل لابساً روح شجر النيم وشجيرات الجميز الكثيفة المتشابكة حول شاطئ النيل۔" وعبق أريج زهور الليمون وزهور شجر الطندب وشجر الطلح والتمر هندي والجوافة والمانجا، "وقصب السكر شديد الحلاوة يزدهي في الحقول بلونه الأحمر الداكن العسلي الجميل، وعليه نوديت فاطنة السمحة، فاطنة قصب السكر". وقطف القطن والباعة الجوالون، وحياة مخترقة حجب الزمان بالأسياد والأولية والأضرحة والتمسح بالرضا والقبول بشعائر وطقوس مكونة شكل البيان وهذا مقتطف منه:" تمسح وجهها بالحرير الأخضر الداكن اللون الذي يجلل الضريح، تطوف أركانه الأربعة، تبدأ بالشكوى، تنفعل في شكواها الهامسة وتتدحرج دموعها على خديها "المشلوختين"، بينما تأخذ حفنة أخرى من التراب، تفك وشاحها من رأسها وتربط التراب في صرة صغيرة في طرف ثوبها تحكم ربطها ثم تستنشقها في عمق وهي تشعر بالرضا مثل حاج أكمل شعائر حجه".

رواية "صهيل النهر" ليست رواية لشخصية فرد واحد تدور حوله، لكنها حكاية الناس والأمكنة بقراها بسمائها ونهرها ونبتاتها وأشجارها وصحرائها وترابها وحيواناتها، وطقسها الحار الاستوائي، انها قصة "الفحيح الفائر من وجه الطبيعة الساكنة وهي تنذر بهبوب الريح المحملة بالخصوبة والتراب".

وفي النهاية هي كما كتبت بثينة: "ها أنذا الآن... أمضغ خاطراً منكسراً، أجتر نقوش الذاكرة، ولم يتبق في العمر سعة لتذوق اللذاذات الهشة، الحاضرة أو الآتية، كيف يمكن أن نحتفظ بطعم المتعة في اللحظات الروحية المتفجرة، ونحن نغترف سعادة لا نشعر بوجودها في وقتها؟ أسائل نفسي في حسرة... أيهما أجمل، مياه البحيرة الصافية الرائعة، أم موج النهر الهادر بجنونه وعذوبته وحلاوة مياه أمواجه الراحلة المتغيرة؟"