القلوب خزائن مغلقة، ومفازات تظمأ في متاهاتها إبل الفضول، ما تكتبه أقلام المشاعر في كتب الصدور ليس من السهل على الآخرين غالباً قراءته، أو فك طلاسمه، يحجبه الضباب الكثيف أحياناً، وأحياناً أخرى تزوّره الأهواء الشخصية والميول.

Ad

لا يقين يدعم زعمنا بمعرفة ما يجول خلف أضلع شخص، أو ما يدور وراء باب قلبه، إذا لم يعيننا هو على ذلك.

تصبح وسيلتنا الوحيدة لمعرفة الآخر هي التخمين، وعلة التخمين هي أنه لا مرجع له إلا ظننا الحسن أو ظننا السيئ ولا شيء غيرهما، وأكبر عيوب ظننا الحسن أنه مغامرة قد تفقدنا من ثقتنا بذواتنا الشيء الكثير، وأكبر عيوب ظننا السيئ أنه مغامرة قد تفقدنا من جمال الآخر الشيء الكثير، وكثير منا يفضّل أن يغامر بجمال الآخر على أن يغامر بثقته بذاته، لذلك تتقلص قدرتنا على الولوج داخل الآخر ومعرفته حق المعرفة.

البعض يتعمد أن يصعّب علينا معرفته، ويجعلها مهمة أشبه بالمستحيلة، يجد لذة كلما شق الأمر علينا وصعُب، وكأنما هو تحد بيننا وبينه، يحيط نفسه بكل ما ينتجه الغموض من السواتر والأحجبة، ومهما أطلنا الوقوف أمام باب قلبه نطرقه بكل ما أوتينا من إصرار فلن يجيب ولن يفتح الباب الموصد أحد!

بينما يسمي البعض الآخر نفسه بالكتاب المفتوح لمن أراد أن يتتبع سطوره المكتوبة بلغة لا يخطئها الفهم، باب قلب هذا البعض لا يحتاج منا لأكثر من نداء ليفتح مصراعيه ويستضيفنا في مجلسه، لنفترش حرير المشاعر، ونحتسي قهوة الألفة معه.

ورغم أن القلوب مغارات موصدة بأبواب لا تفتح إلا بكلمات سرية لا يعرفها إلا أصحابها، إلا أن هذا ليس دليلا على أنها لابد أن تبقى كذلك إلى أن تتهاوى نبضاً نبضاً، وأن هذا ليس هو قدرها المحتوم، فإنما وُجدنا في هذه الحياة لتمتد بيننا وبين الآخرين جسور تؤدي لمعرفتنا بهم ومعرفتهم بنا، وأن نؤثث قلوبنا بمن ننتقي منهم.

البيوت التي لا تفتح أبوابها للناس، ولا تفتح نوافذها للنور والهواء، تأكلها الوحشة، ويسكنها العفن، وكذلك القلوب!

وحقيقة إنه لن يستطيع أي منا أن يقتحم قلب آخر قسراً، ولا أن يقرأ خارطته النفسية والعاطفية ما لم يساعده هذا الآخر بالإمساك بمفاتيح تلك الخارطة، ومعرفة الكلمة السرّية لأبواب قلبه، والذين تسللوا خلسة لقلوب آخرين على غير رغبة منهم، معظمهم وجدوا أنفسهم يُقذفون من سطوحها بعد حين، معرضين أنفسهم للذل والمهانة، هذا غير ما قد يتعرضون له من أذى.

والحقيقة الأخرى أن غالب من يُعلون الأسوار، ويضاعفون الجدران بينهم وبين الآخرين، لا يستحقون عناء هدمها، فغالبا ليس وراء تلك الجدران والأسوار سوى الظلام، وما تلك الجدران العالية إلا حراس للشوك وليس لحدائق الورد، وفي المقابل ليست كل الخزائن سهلة الفتح خالية من النفائس والمجوهرات، ويكفينا رضى من هذه الخزائن في حال لم نجد فيها ما يغري أنها لم تستنزفنا لمعرفة ذلك، ولم تستغل "غريزتنا" الإنسانية المتمثلة في حاجتنا لطرد الوحشة عن قلوبنا... بألفة قلب آخر، استغلالاً بشعاً!