ذكريات ضالة

نشر في 04-11-2014
آخر تحديث 04-11-2014 | 00:01
 د. نجمة إدريس يُقال: أن تعيش اللحظة الراهنة، تلك هي الحياة الحقة. لكن رواية (ذكريات ضالة) لعبدالله البصيّص تقول غير ذلك! فالرواية التي تنحت من الذكريات عمودها الفقري تقول إن الإنسان هو صنيعة ماضيه وذكرياته، بل إن تلك الذكريات تمتلك من القوة ما تحرّك فيه أعتى النوازع وأدق الرغبات المكبوتة، وقد يؤدي استيقاظها إلى انقلابات جذرية في شخصية الإنسان وحياته.

 يبني المؤلف معمار روايته على زمنين: حاضر الشخصية الروائية وماضيها، وبتؤدة يقدم لنا الأسباب النفسية والبيئية التي صنعت من (سلمان) تلك الشخصية المركبة، المنطوية على العدوانية والالتذاذ بإيقاع الأذى بالآخر بماسوشية صارخة، وفي ذات الوقت يعاني الهشاشة والرهافة إزاء الصلات الإنسانية الحميمة كالصداقة والحب ومتعلقاتهما. الأمر الذي يحيل (سلمان) إلى كائن مراوغ موزع النفس، مفتقد هوية إنسانية متوازنة وسويّة.

 ويبدو أن رحلة حياته التي انتهت به نقيباً للشرطة في دائرة أمنية، كانت لا تزال تراوح عند تلك الشخصية المركبة التي يتعثر بها وهو يمارس مهام وظيفته. بل ان الوظيفة التي لم يكن ثوبها ناصع البياض بسبب الفساد الإداري والأخلاقي، زادت من حمولة الشقاء المتخفي وراء مظاهر المجون والمتع الرخيصة التي غدت من روتين حياته اليومية، وبمؤازرة من طاقم الوظيفة الغارق في وحل الفساد.

 لم تكن غير (الذكريات الضالة)، تلك التي التقطته من الدوامة كما تلتقط السنارة سمكة دائخة، لتلقي به في وادي الطفولة المعفّر بمزيج من القسوة والمتع البريئة المتطايرة. لقد كانت ليلة القبض على (المنشار) سارق السيارات ومحلات الصرافة، هي النقطة المفصلية في اندلاع الذكريات المعتّقة، حين رأى فيه وجه صديق طفولته الذي طال افتقاده وطال غموض سيرته التي لم تكتمل.

 لم يكن (حميد شاكر) رفيق المدرسة وجار الطفولة فقط، وإنما كان شاهداً على تحولات الصبا الباكر حين تتكشّف معانٍ أخرى للكينونة الإنسانية وانفتاحاتها على الحب والكره والقسوة والشفقة والاعتداد والخوف، وبعلامات حادة وفارقة. لكأن الطفولة والصبا هي الصفحات الأكثر صدقاً وتوثيقاً لمرايا الوجود، والأجدر بالالتفات والأعمق في حفر الأوشام الأبدية على جبين الحياة. لم يكن الحديث عن أحداث الطفولة في الرواية، وبلسان طفل، يستجلب لدى القارئ غير الشعور بجدية المواقف، ومصداقية المشاعر، وضرورة ألا نستصغر تجارب الأطفال أو نقلل من شأنها أو نستخفها. والأهم من ذلك أن نتيقن بأن تجارب الأطفال تظل هي الجذر الأهم في تشكيل شخصيات البالغين.

 يمكن القول إن الكاتب قد أجاد استخدام أدواته الفنية في مفتتح الرواية ونهايتها، أما السرد فيما بينهما فقد تراوح بين المشاهد المثيرة المبهرة ، وبين الوصف الباهت المتضعضع، وكأن الرواية يتعاور عليها قلمان أو مزاجان يفتقران إلى التناسق. فقد أحسن المؤلف الدخول إلى الرواية عبر استخدام صوت الرواي والذي بدوره ظهر إلى حيّز القص عبر شخصية أخرى مساندة، كانت مهمتها مهمة جسر العبور. أما النهاية فقد جاءت شبه مفتوحة أمام مخيلة القارئ. إذ يمكن أن يعتبر أن المتهم الذي تم القبض عليه هو عينه (حميد شاكر) بعد أن خذلته الحياة، أو أن يظن بأن (حميد) قد مات فعلاً بعد الغارة التي شُنّت على الحي إبان الغزو الصدامي على الكويت، حسب ما استدركته ذاكرة (سلمان) من أحداث ذلك اليوم. وعلى قدر ما جاءت معظم مشاهد الرواية ساخنة وضاجة بالإثارة والتوقع ، كانت بعض المواضع تبدو مهلهلة أو ضعيفة، كالوصف المطوّل لحديقة الحيوان، وكمواقف العتب والرضى بين الصديقين والتي بدت ممطوطة ومترهلة في سياق القص.

 وفي نهاية المطاف تتكرّس (الذكريات) ليس فقط كلازمة من لوازم الحكاية، وإنما كوسيلة ناجعة لاستعادة (سلمان) لإنسانيته التي طالما تنكر لها وهو يلعب دور رجل الشرطة الفاسد. وبعودة نفحة الإنسانية الخيّرة إلى ضميره لم يعد هناك ما يستحق الندم، بما في ذلك مسألة انتهائه إلى العجز على كرسي متحرك. لقد قال حكايته وتخلّص من عبئها، وتوارى في الصمت. وحسبه ذلك.

back to top