الرهان الأول

نشر في 04-01-2015
آخر تحديث 04-01-2015 | 00:01
 ناصر الظفيري في مرات عديدة أتوسم كثيراً من الإبداع في نصوص الشباب الأولى التي تتجاوز أعمارهم وتجاربهم الحياتية وخبراتهم المكتسبة، هؤلاء الذين لم تمنحهم الحياة بعد الكثير من المشاكسة، ولم تتح لهم فرص للتفاؤل التام، ولم تنتابهم الخيبات الكبرى. نصوصهم، دون شك، تتجاوز هذه الحياة القصيرة جداً التي عاشوها والأفعال التي ارتكبوها وربما أيضاً الأحلام التي يعيشون من أجلها.

تجاربهم تمتلك من العمق والدهشة ما يجعلك تصاب فعلاً بالذهول. والسؤال الذي لا مناص منه هو: ماذا سيفعل هؤلاء الشباب في منتصف العمر وماذا سيكتبون حين تتقدم بهم السنون؟ لست متيقناً من أي شيء، لقد أُصبت بخيبات سابقة من تجارب مماثلة، ولكنني أقرأ بمعطيات ما يمليه عليّ العمل الذي يقدمونه، وأراهن مرة أخرى عسى ألا أخسر كالعادة.

ثلاث تجارب من الكويت والبحرين والسعودية تستحق الاحتفاء للجهد الأدبي والفكري المبذول فيها، سأتناولها تباعاً، وسأراهن مرة أخرى على ما سيكون لها من شأن في الأدب الخليجي والعربي.

التجربة الأولى لعبدالله المحسن، وهو شاب من المملكة العربية السعودية صغير السن من مواليد 1997. نعم الرقم الذي كتبته صحيح. ترك مدرسته في الإجازة ليحضر توزيع ديوانه الأول والاحتفاء به في معرض الكويت الدولي للكتاب، ليكتشف أن الكتاب ممنوع، ولم تفرج عنه الرقابة، فيعود ليلحق بمدرسته مصاباً بخيبة أمل، وهي بالتأكيد ليست أولى خيباته المبكرة ولن تكون آخرها.

لا يهم يا عبدالله، لم يكن المنع يوماً ما مصادرة للجمال الذي تحترفه، وإن كان مصادرة للورق.

منذ النص الأول "سيرة وهمية" تمسك بتلابيب التجربة لا تتركها تفلت من يديك حتى تأتي على النص الأخير، تتأكد من عمر الشاب "الآن بعد سبعة عشر عاماً، أشعر أن جميع الأنبياء مروا علي، أغرقني الطوفان لذي لم أنج منه لأنني كنت وحيدا". كان ذلك مفتتح الذهول الذي بدأه لرسم خريطة قصائده، "بعد سبعة عشر عاماً فقط، أشعر أنني عبرت الكثير من السنين، ربما لأنني كنت أعدو كثيراً بين شواهد القبور". سبعة عشر عاماً هي كل ميراثه الذي يحمله، وهو بالتأكيد يعرف أنه طفل يكبر بجنون "بيكاس" في فقهاء الظلام. يومه ليس يوماً عادياً وما يعيشه في يوم يعادل عمراً بكامل خبراته.

في هذا السن يرسم لنا طفولته، وتتكرر لفظة "طفل" في أكثر من قصيدة، وكأنها الخبرة الوحيدة التي مرت به، وهي فعلاً الخبرة الوحيدة التي مرت به. فتراه يقول "أتذكر بأني الطفل الوحيد كنت أختلس النظر للشيطان" ثم يقول "أبدو كطفل صغير ينمو محاولاً قطع جذوره من سلالة البشر، كما أنني الطفل الشقي الوحيد الذي لم يسجد"، ويقول أيضاً "يا طفلي سنذهب غداً للحقل ونحفر بدمنا "، ويذكر "وفي راحتي، يوأد طفل كلما نبشته لا يعود لي".

لم يعش عبدالله المحسن سوى وعيه الذي تفوق به على قصيدته، وتفوقت صورته الشعرية التي أخضعها لفكرته، لقد صنع لنا من لا شيء كل شيء. بهاء الالتقاطة، ثبات الحركة التي اتزنت بها النصوص، ليس ثمة زلة هنا أو إخفاق هناك. ما قدمه هو فكر متكامل يحمل حياة شاب في أول العمر يشيخ بسرعة من قصيدة أولى الى آخر قصيدة. وكأنه يسوق قطيع خبراته التي لم يعشها بعد قبل أن يعيشها كاملة.

"لم تكن لدي أرجوحة في طفولتي/ كنت أنا القميص الذي يتأرجح فوق حبل الغسيل/ كنت ذاته البنطال الذي يطلق قدميه للريح"...

عبدالله المحسن وماذا بعد يا بني! إننا ننتظر.

back to top