إن توقفاً متأملا أمام ظاهرة تعلّق الإنسان بالحكاية، منذ اخترع الإنسان الكلمة واللغة، واجتماعه حول الحكاية، يُظهر العلاقة الوطيدة بين الحكواتي والمتلقي. وأن لقاءهما لابد أن ينعقد في حيز مكاني وزماني محددين، وأن شغف المتلقي بالحكاية كان على الدوام مرتبطاً وقائماً على استخلاصه من اضطراب لحظته المعيشية التي يحياها، ونقله إلى مغامرة حكاية حدثت في زمن سابق، أو خيالات حكاية ستحدث مستقبلا، وكيف يمكن لتلك الحكاية أن تلقي بظلالها على لحظته الراهنة.

Ad

 الكاتب وعبر الراوي/الرواة يبدو منذورا للحكاية، والقارئ متطلباً عطشاً لحكاية متجددة تشفي غليل شوقه لمتعة عابرة، ولمعرفة إنسانية باقية في وجدانه ووعيه، تعينه على قراءة وفهم قوانين الواقع الظاهرة والمستترة.

وبذا يكتسب الإبداع قيمته المقدسة، وبقاءه الأبدي، لكونه جزءا من حياة الإنسان لا يمكن الاستغناء عنه. فلا يمكن للإنسان أن يعيش متوائماً تماماً مع واقعه المادي والاجتماعي والسياسي، ولذا هو بحاجة إلى من يعينه على تحمّل وجع وقسوة هذا الواقع، وليس أقدر وأكرم من الفن والأدب لتأدية هذه المهمة المقدسة.

 الرواية كجنس أدبي، منذ انتشاره الواسع بين القراء في بداية القرن التاسع عشر، واستحواذه على اهتمامهم الكبير خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين، استطاع هذه الجنس الساحر أن يضيف تجربة حياة مغرية إلى حياة القارئ القصيرة. وبذا صار مطالباً بأن يكون متجدداً يحترم عقل القارئ ووعيه.

وصار مطالباً من جهة أخرى بأن يكون معاصراً يجاري تفجر واختراعات الواقع التكنولوجي والتقني. وخاصة أن ثورة المعلومات، ومحركات البحث على شبكة مواقع الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، استخفت وكسرت حدود المكان والزمان، وقدمت للإنسان كل المعلومات التي تخص حياته، وكشفت - من دون حياء - كل عورات الشؤون الإنسانية الخاصة.

إن وقوفاً مستحقاً أمام الواقع الإنساني الذي نحيا اليوم، يحتم على الكاتب الروائي أولا، وعلى الناقد الأدبي ثانياً، وثالثاً على القارئ المتذوق، أن يتأمل كل منهم من زاويته الخاصة صيغة الكتابة الروائية. وأن ينظر أول ما ينظر إلى الراوي الذي يتولى سرد الحكاية. فالقراءة هي رحلة يتجاور فيها القارئ والراوي. ومع الجملة الأولى في المتن الروائي، يبدأ الراوي باصطحاب القارئ إلى مغامرة الحكاية، وفي حال جاء السرد بصيغة "الراوي العليم"، يبدو السؤال مستحقاً عن ماهية وشخصية هذا الراوي، وعلاقته بالمؤلف الحقيقي للنص، وعلاقته من جهة ثانية بأحداث الرواية.

 منذ سنوات، ومراراً تجلي السؤال لي: كيف لشخص لا يعرفني ولم يسبق له أن اقترب من عالم يومي بتفاصيله الصغيرة أن يعرف كل شيء عن حياتي، ماضيها وحاضرها، ويتجاوز ذلك لمعرفة حيوات كل أصدقائي وأهلي ومحباتهم ومعاناتهم، بل ويذهب بعيداً حين يكشف عن أحلامهم المستقبلية، وأخيراً يعطي لنفسه الحق في أن يتحكم بمصائرهم؟

 

* هذه الورقة جزء من بحث نقدي مطول أعمل عليه لجامعة "كانغستون في لندن- Kingston University London"، وقد قدمت في محاضرة بـ"معرض أبوظبي للكتاب 2015".