السينما الكويتية بالنسبة إلي تعني فيلم «بس يا بحر» (1972)، تأليف عبد الرحمن الصالح وإخراج خالد الصديق، الذي يُحسب له أيضاً إنجاز فيلم «عُرس الزين» (1976) المأخوذ عن رواية للأديب السوداني الكبير الطيب صالح. وكان صاحب سبق عندما استثمر فترة وجوده، كمخرج سينمائي في تلفزيون الكويت، ودشَّن قسماً للسينما قدَّم من خلاله قرابة ثمانية أفلام سينمائية ووثائقية مثل: «المطرود» (1964)، «الصقر» (1965)، «الحفرة» (1968)، «الرحلة الأخيرة» (1966)، «الأمن الداخلي» (1967)، «وجوه الليل» (1968) .

Ad

من هنا كانت دهشتي كبيرة، وفرحتي طاغية، عندما قادتني المصادفة إلى مشاهدة فيلم «سندرة» (الكويت/ 2014) في عرضه الأول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من خلال برنامج «أصوات خليجية»، الذي تمَّ تنظيمه أثناء الدورة الحادية عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي (10 – 17 ديسمبر 2014)؛ فالفيلم واحد من أفلام «التحريك»، التي يُصطلح على تسميتها الآن «التشكيل»، وتحمل مخرجه  يوسف البقشي عبء التجربة من الألف إلى الياء؛ فهو كاتب سيناريو «سندرة»،  ومنتجه، ومصوره، وهو الذي رسم الشخصيات في الفيلم ذي البعدين، بينما تولى مسؤولية الغرافيك والمونتاج جاسم بورحمه، تعديل الألوان عباس اليوسفي، صياغة الموسيقى علي حبيب وعيسى هاشمي وجسد أصوات الشخصيات: حمزة عبدالرسول، عبدالله التركماني وعيسى ذياب.

الطريف أن فيلم «سندرة» (7 دقائق من دون حوار) ينوه، كما جرى العرف في الأفلام الروائية الطويلة، إلى أنه مأخوذ عن واقعة حقيقية، لكنه يترك للمشاهد الفطن مهمة اكتشاف ماهية الواقعة، وزمن حدوثها؛ حيث تبدأ الأحداث بعربة جيب عسكرية تحمل حفنة من الجنود في حالة تربص واضحة بينما يبدو أحدهم مشغولاً بالتطلع إلى صورة عائلية ولكنه يستيقظ من ذكرياته على صوت القائد ذي الشارب الكث، وهو يُصدر تعليماته للجنود باقتحام منزل بالقوة، بحجة أنه يُستخدم كوكر لإخفاء المقاومين، وفي الداخل يتمّ العبث بالمحتويات، ولا يُترك ركن من دون تفتيش، ويُكلف الشاب، الذي كان مشغولاً بالتطلع إلى الصورة الفوتوغرافية، بالبحث في «سندرة» المنزل، التي يتم استخدامها لحفظ وتخزين الأشياء التي لا حاجة إليها في الاستعمال اليومي. وأثناء أداء مهمته يستشعر حركة خلف ملاءة مهملة فيتوجس خيفة لكنه يفاجأ، كأفلام الغموض والتشويق، بقط يظهر أمامه، ولفرط فزعه يكاد يسقط غير أنه يتشبث بجزء من الملاءة، التي تنسحب وتكشف عن وجود عائلة بأكملها تختبئ في «السندرة»!

لمحات تتوافر فيها مواصفات التجربة الفنية المثيرة كافة؛ إذ تجمع بين الميلودراما، والحركة، والرومانسية، وأفلام الحرب، فضلاً عن مواصفات أفلام التشويق والغموض والإثارة؛ فالشاب يكتشف أنها العائلة نفسها التي التقط لها ذات يوم صورة فوتوغرافية في القرية، وكانت السعادة، وقتها، تُخيم على الجميع، ويجد الشاب نفسه في موقف لا يُحسد عليه، لكنه يحسمه بسرعة عندما يُقرر عدم إبلاغ قائده بأمر العائلة «الشقيقة»، ويغادر الجميع المكان بعد فشل المهمة!

يُدهشك المخرج والكاتب يوسف البقشي بقدرته على رسم ملامح الشخصيات، والاهتمام بتفاصيل الصورة، فملامح الجنود وقائدهم العسكري تكاد تضع أيدينا على جنسية «المُحتل»، والدبابات في الشوارع، والطائرات التي تجوب السماء، والسيارات التي تركها أصحابها في الشوارع وفروا، بالإضافة إلى الأزقة والطرقات التي تحوَّلت إلى خرابات بفعل تكدس القمامة وتراكم الجثث التي يُحط عليها الذباب، تُذكرك بما جرى في زمن «الغزو»، وهو المعنى الذي تؤكده الموسيقى التي تستلهم «المارشات العسكرية» بينما تبدو المقارنة واضحة بين الحاضر «الكابوسي»، والماضي «السعيد»، الذي ألمح إليه المخرج، بذكاء، بمشهد الدجاج الذي يمرح ويلهو كالبشر في المكان الآمن والمستقر قبل أن يُعكر صفوه «الغزو».  

من دون ثرثرة تصل رسالة فيلم «سندرة» إلى المتلقي، ورغم محاولة المخرج يوسف البقشي تعميم الواقعة بحيث تبدو عالمية لا مكان فيها لمحلية أو إقليمية، وتعمده الواضح تجنب الحديث بشكل مباشر، والاكتفاء بالتلميح من دون التصريح، ربما كي لا يُعيد للذاكرة ذكرى أليمة على النفوس. إلا أن المغزى كان واضحاً، والجهد المبذول في توصيل الرسالة كان مشكوراً، بحيث يمكن القول إن المخرج نجح في تجريد الواقعة، ومنحها بعداً إنسانياً يحثّ على نبذ الحروب، ومناهضة أشكال الاحتلال كافة، ويتبنى الدعوة إلى السلام، والعيش في محبة وإخاء، والبعد عن البغضاء والكراهية، وهي الرسائل الجميلة التي رسخت في ذهن المتابع للفيلم البسيط «سندرة»، الذي أعاد السينما الكويتية إلى الساحة، وكشف عن طموح شبابها؛ فعلى الرغم من البدائية التي تجلت في التجربة، من حيث توظيف الغرافيك وفن التحريك، مقارنة بالإبهار الكبير الذي وصلت إليه هذه النوعية من الأفلام في السينما العالمية، فإنه يُحسب لصاحبها اجتهاده، فإن أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر... والقادم أفضل بكل تأكيد.