عالم وولف الراقص
حياة الروائية الانكليزية فرجينيا وولف (1882 ـــ 1941) تستحق أكثر من استيحاء في فن السينما. فقد عاشت حياة مبدع يسعى جاداً إلى ارتياد سبل للتعبير عن الالتباس الداخلي غير تقليدية، فوقعت عليها عبر نثر متميز، ولكن بعد أن بلغ هذا الالتباس الداخلي مرحلة أودت بها إلى الجنون، ثم الانتحار عن عمر لم يتجاوز 59 سنة. على أننا لم نرَ حياتها إلا في فيلم "السنوات" (2002). و"السنوات" رواية لها. ومن ضمن الروايات التي أصبحت أفلاماً: "السيدة داللوَيْ"(1997)، و"إلى المنار" (1983)، و"أورلاندو" (1989)، و"غرفة خاصة" (1991). وألفنا مسرحية "من يخاف فرجينيا وولف" لأدورد ألبي، دون أن تمس فرجينيا وولف إلا بالاسم. ولكننا الآن نحظى بعمل رائع في حقل الباليه، تقدمه دار الأوبرا الملكية في "الكوفن غاردن" تحت عنوان "أعمال وولف". المقاعدُ المناسبة، وأعني الرخيصة، لعروض دار الأوبرا عصيةٌ كالعادة. فهي تنفد قبل أشهر من العرض. ولكني وقعت على ما ظننته كرسياً فحجزته عبر الانترنت. ولكني حين بلغتُ الموقعَ وجدته حيزَ وقوف لشخص واحد، إلى جانب مسند مرقوم، يُطل من الخلف على صفّة من مقاعد بالكون واسع. فوجئتُ عن رضا، لأن المبلغ الذي دفعته زهيدٌ تماماً، وإطلالتي تمكنني من رؤية المسرح بصورة مريحة، إلا جزءاً من زاويته اليمين. ثم إن الباليه التي جئتها متحمساً في فصول ثلاثة، قرابة نصف ساعة لكل فصل، مع استراحتين بينها تمتد الواحدة لنصف ساعة أيضاً. فسحة من الوقت للاستراحة تعوضني عن فسحة من المكان ضيقة.
ولكن العرض الرائع أنساني متاعبَ الوقوف، ومعكرات المشاهدة. يكفي أنني مع فرجينيا وولف التي أُحب، أراها متخفية وراء فيض موسيقى تتهادى، وتسرع بين المشاهد والفصول، ولكنها في مجموعها تعتمد تكرار الجملة اللحنية على طريقة "المينيمالزم"، وبجاذبية سحرية تجمع بين الموسيقى الحية والموسيقى الإلكترونية (من تأليف الموسيقي البريطاني ريختر ماكس). ومتخفية وراء مشاهد رقص تعبيري مستوحى من شخصها هي، ومن روايات لها ثلاث: "السيدة داللوَيْ"، و"أورلاندو" و"الأمواج" (واضع الباليه والرقص ماكغريغور). ووراء مؤثرات صوتية وبصرية في غاية التأثير. الفصل الأول، الذي يعتمد رواية "السيدة داللوَي"، يبدأ دون موسيقى. ينفرد فيه صوت فرجينيا وولف الحقيقي، تتحدث عن اللغة الإنكليزية، بلهجة أرستقراطية صافية، وكأنها "تُطل من عالم غريب تماماً عن حساسية المخرج ماكغريغور الفائقة الحداثة"، على حد تعبير أحد النقاد. تتوسط المسرح ثلاثة أُطر خشبية ضخمة تواصل دورانها ببطء، وكأنها تشي بتحولات الزمن الروائي بين الحاضر والماضي. وبينها تتحرك السيدة داللوي (الراقصة الشهيرة أليساندرا فيرّي، رغم عمرها الذي بلغ 52 سنة!)، المرأة الحائرة من الطبقة الوسطى بصحبة زوجها المحتضن، متطلعة كل حين إلى شخصها حين كانت شابة، ترقص مع فتاة كانت في يوم ما حبها المستحيل. أية رقة وحميمية في الموسيقى والرقص والديكور! على خلاف الفصل الأول يبدو فصل "أورلاندو" خليطاً من تقنيات رقص بالغة التعبيرية، حادة، ومشبعة بالفانتازيا، ونص الرواية كان كذلك. فأورلاندو يتحول عبر الأزمنة، وعبر جنس الرجولة والأنوثة. ولذلك شاهدنا مؤثرات مسرحية ملائمة: خطوط أشعة ليزر تخترق أفق المسرح، مع 12 راقصاً ذوي طبيعة خنثوية. ولعل هذا الفصل كان أعنف الفصول وأكثرها إثارة للحماس. في الفصل الثالث "الأمواج"، تعود الموسيقى والرقص أكثر بساطة وأكثر جرأة معاً. الفصل يُفتتح بتسجيل صوتي تُقرأ فيه رسالة فرجينيا وولف التي كتبتها قبل انتحارها الوشيك. وبهاجس بالغ الإثارة للحزن تتوسط البطلة حشداً من الراقصين، تحت تأثير شاشة خلفية تتحرك فيها أمواج بحر هائج ولكن ببطء، وكأنها أمواج تربط الطفولة بالنهاية التي نراها عياناً في تلاشي الراقصين داخل الخلفية المعتمة للمسرح، في الغرق بين الأمواج. حين انتهى العمل وخرجت مع الخارجين، كنت قد نسيت تماماً أني شاهدته واقفاً على قدمين، أو على قدم واحدة أحياناً. هذه ثمرة واحدة من ثمار سحر الفن.