"يا أيها الوعي أفسدت ذوق المغني"... تلك خاتمة لقصيدة من أجمل القصائد التي تسكن ذاكرتي للشاعر السعودي محمد جبر الحربي، قصيدة تضع إصبعها على أزمة حقيقية يعيشها كثير من المثقفين، يحدث أن يسلب الوعي كثيراً من براءة قلب المبدع ونقائه، يجعله حريصاً أكثر مما يجب على أن "يمنطق" كل شيء، فتهرب من بين أصابعه كثير من جماليات الأشياء التي يحاول أن يجد منطقاً فلسفياً لها أعقد من بساطتها في الواقع!

Ad

ولكن هل يفسد الوعي فقط ذوق المبدع؟!

أظن أنه أحياناً يتجاوز ذلك كثيراً.

أزعم أن تأثير الوعي على المبدع رهين بالروح التي يسكنها، فإذا سكن الوعي روحاً صافية نقية زاد من جمالها، وإن سكن روحاً سيئة زاد من بشاعتها!

التقيت بعدد من المثقفين في حياتي، وجدت بعضهم، رغم وعيه وربما تميز إبداعه، من أسوأ مَن قابلت من الناس على المستوى الإنساني، مأزومون نفسياً واجتماعياً، بينهم والآخر غالباً عداء تجهل أسبابه، مسوّرة أرواحهم بالشوك الذي يظهر جليّاً حين تقترب منهم مهما حاولوا أحياناً إخفاءه، والتظاهر بعكسه، واستوطن اللؤم والخبث ذواتهم حتى امتلأوا بالليل، وضاقت بهم الحياة حتى لم تعد تتسع إلا لبقعة صغيرة تشكل عالمهم المؤثث بهم، وبهم فقط! لا يرون في الناس جمالاً سوى ما يتساقط من إبداعهم، ولا شموساً في الفضاء سوى ما يشرق من فضاء نتاجهم، استوحشوا العالم حتى توحّشوا فيه، أصبحوا جزراً معزولة غنية بالكتب وفقيرة بالناس، تطرّفوا في الإيمان بمقولة خير صديق في الزمان كتاب، فهذه المقولة تعني - في ظني- أن الكتاب خير الأصدقاء، ولكنه ليس الصديق الوحيد، كما أن الحياة الواقعية لا تقتصر على الأصدقاء فقط، ولا يمكنها أن تكون كذلك، الإشكالية العصية هي أن هذه النوعية من المثقفين قد حصّنت سوءها جيداً بما في تلك الكتب من علم ومعرفة وخبرات حياتية، وبدل أن يعلّمهم الوعي كيف يبنون جسوراً خضراء بينهم وبين الناس على اختلافهم، خلق الوعي متاريسَ محكمة لحماية شوك أرواحهم، بل وأدلجوا ذلك الشوك وعرفوا كيف يجعلون أذاه مضاعفاً، حتى إن المرء يتساءل بألم بالغ: أي روح تسكن أجساد هؤلاء قادرة على جعل جمال المعرفة وسيلة لتجذر قبحهم فيهم؟!

هؤلاء لم يفسد الوعي أذواقهم فقط، بل أفسد جوهرهم أيضاً، ولم يقتصر التأثير السلبي للوعي على نتاجهم الإبداعي المليء بالصدامية حتى مع الذات، بل تعداه ليسلب إنسانيتهم!

وعلى الطرف الآخر التقيت بعض المثقفين الذين زادتهم المعرفة جمالاً إنسانيا ساحراً، ومنحهم الوعي قدرة على أن يكونوا... بسطاء كالماء!

تجدهم بصحبة الناس العاديين، وكأنما هم أقل عادية منهم، لديهم رغبة حقيقية في معرفة الحياة ليس عن طريق ما تنتجه النخبة المثقفة فقط، ولكن أيضا عن طريق المهمشين والعاديين والبسطاء، يشاركونهم نسج الحياة اليومية بخيوط المحبة، يتعلّمون منهم ويعلّمونهم دون أن يرتدوا لباس الأستاذية، يحرصون على رؤية أكبر قدر من جمال الآخر ويشاركونه جماله، يدهشك وعيهم الكبير ومعرفتهم الغزيرة التي تسلب العقول والمصحوبة ببساطة إنسانية تأسر القلوب، يشعّ وعيهم دون الحاجة لأن يحيطوه بأضواء "النيون"، هؤلاء هم المثقفون الذين يحملون أساساً أرواحاً جميلة، فلما سكنها الوعي عمّق جمالها، الوعي شرٌّ في النفس الشريرة، وخيرٌ في الأنفس الخيّرة!