الوضع المعتاد الجديد في مدن الصين

نشر في 23-01-2015
آخر تحديث 23-01-2015 | 00:01
ربما تواجه الصين بعض الرياح المعاكسة في الأمد القريب، وبالتالي فإن ظهور التأثيرات الإيجابية لهذا التحول سوف يستغرق بعض الوقت، ومع توطيد الحكومة المركزية لسلطتها من خلال الإصلاح المالي وحملة مكافحة الفساد، فإن تنظيم المرحلة التالية من الإصلاحات البنيوية على المستوى المحلي سيتطلب تنسيقاً بارعا.
 بروجيكت سنديكيت على مدى عقود من الزمان، عمل التوسع الحضري السريع في الصين على خلق تكتلات من المعرفة والتصنيع والتوزيع في المناطق التي استفادت من الاتصال الراسخ بالاقتصاد العالمي، لكن نموذج النمو هذا بلغ منتهاه، فمع ارتفاع نسبة من يعيشون في المدن من 20 في المئة في عام 1981 إلى 53 في المئة في عام 2013، تتحول الصين إلى "وضع معتاد جديد"، ووفقاً للرئيس شي جين بينغ فإن الهدف يتلخص في ضمان نمو اقتصادي سنوي بنسبة 7 في المئة تقريباً بدعم من فرص جديدة في الصناعات التحويلية ذات القيمة المضافة، وتكنولوجيا المعلومات، والإنتاج الزراعي الحديث.

ولكن في التحرك نحو هذا الهدف، ستواجه الصين تعديلات صعبة في ميزانيتها العمومية التي لا يمكن إدارتها بسهولة بالاستعانة بالسياسات المالية والنقدية التقليدية، وتشير دراسة حديثة أجراها دويتشه بنك إلى أن المدن الثلاثمئة في الصين واجهت في العام الماضي انخفاضاً بنسبة 37 في المئة في عائدات مبيعاتها من الأراضي، وهي انتكاسة كبيرة إذا ما علمنا أن مبيعات الأراضي كانت تمثل نحو 35 في المئة من مجموع مبيعات الحكومات المحلية. وقد ارتفعت هذه العائدات بمعدل سنوي بلغ في المتوسط نحو 24 في المئة في الفترة من 2009 إلى 2013.

وعلاوة على ذلك انخفض معدل تضخم المستهلك والمنتج السنوي إلى 1.5 في المئة و-3.3 في المئة على التوالي في ديسمبر الماضي، وهو ما يرجع جزئياً إلى الانحدار الحاد في أسعار النفط العالمية، والآن تواجه الصين خطر الانكماش وبيئة اقتصادية خارجية غير مواتية، والآن تصارع مراكزها الحضرية التفاعل المعقد بين القدرة على الوفاء بالديون، والسيولة، والقضايا البنيوية.

ولكن بعض المدن مجهزة بشكل أفضل من غيرها لمواجهة هذه التحديات، فالمدن الصينية من الطبقتين الأولى والثانية تتميز بالثراء الشديد، وتستفيد من القيم العقارية المرتفعة والتدفق المستمر للمواهب ورأس المال والشركات والمشاريع الاستثمارية، ورغم تباطؤ سوق العقارات فإن مزاد الأراضي الأخير في بكين اختتم أعماله بأسعار قياسية بلغت نحو 38 ألف يوان صيني (6200 دولار أميركي) للمتر المربع.

غير أن المدن الصينية من الطبقتين الثالثة والرابعة تواجه تعديلات أكثر تحدياً في الميزانية العمومية، نظراً لانخفاض أسعار الأصول، وتدفقات العمالة إلى الخارج، والحاجة إلى تحديد نماذج نمو حديثة، وفي أعقاب طفرة الاستثمار في البنية الأساسية التي ولدتها الديون بعد عام 2008، تحتاج هذه المدن إلى إصلاح كيفية تقاسم العائدات مع الحكومة المركزية، وزيادة الشفافية والمساءلة بشأن الميزانيات المحلية، وإصلاح استخدام السندات البلدية والشراكات بين القطاعين العام والخاص في مشاريع البنية الأساسية المحلية.

ولكن قبل أن يصبح في الإمكان تنفيذ هذه التغيرات، يتعين على هذه المدن أن تعالج عبء المشاريع الرديئة الأداء والشركات الخاسرة المملوكة للدولة، والواقع أن المدن الصينية والشركات المحلية سوف تحتاج إلى قدر من السيولة أكبر مما قد يكون مطلوباً في حالات الانكماش الكلاسيكية، ونقص الائتمان، وهبوط الأسعار، لأن الاستثمارات في البنية الأساسية والعقارات من الحكومات المحلية والشركات المملوكة للدولة تظل تستهلك الأموال، ونظراً لتدخل الدولة، فإن أسعار الفائدة لا تتأقلم بالسرعة الكافية لتخصيص الموارد بكفاءة.

بطبيعة الحال، يستطيع بنك الشعب الصيني أن يخفض سعر الفائدة وأن يخفف من سياسة السيولة، لكنه يظل مهموماً بأن القيام بهذا من شأنه أن يشعل شرارة التضخم وأن يغذي الاستثمار المسرف- والمزيد من الطاقة الفائضة- في القطاع العقاري.

ولكن الحفاظ على سيولة محدودة نسبياً من شأنه أيضاً أن يخلق عواقب وخيمة، فبادئ ذي بدء، ما دامت الظروف الخارجية سائلة نسبيا، فإن الظروف الأكثر صرامة في الصين تفرض ضغوطاً تدفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع في القطاع المصرفي الضحل، وإلى جانب نمو تجارة المناقلة بعملة الرنمينبي، تسبب هذا في دفع سعر الصرف إلى الارتفاع في وقت تتجه قيمة العملات غير المرتبطة بالدولار عموماً إلى الانخفاض.

وعلاوة على ذلك، يشجع تقلب أسعار الفائدة وعدم اليقين صفقات المراجحة والاستثمار في الأنشطة الريعية المكلفة اجتماعياً والمضاربة، مع تدفق سيولة البنك المركزي إلى الأسواق المالية، بدلاً من تحقيق هدفها المنشود بمساعدة القطاع الحقيقي، ورغم تباطؤ النمو فقد ارتفعت سوق الأسهم في الصين بنحو 50 في المئة منذ يوليو الماضي، وتظل هوامش القطاع المصرفي كبيرة بشكل استثنائي، ومن ناحية أخرى تظل الثقة بالقطاع الخاص غير المالي كاسدة، في حين يؤدي تضاؤل الطلب إلى زيادة تكاليف الإنتاج.

إن نموذج النمو في الصين يعتمد على نظام حكم تتنافس فيه المناطق والمدن والشركات والأفراد في إطار اقتصاد متزايد التوجه نحو السوق، ولكنه يظل خاضعاً للتنظيم مركزيا، ولكن في دولة بحجم وتنوع الصين، لن يضمن نهج المقاس الذي يناسب الجميع قيام السوق بوظيفته بفعالية، والواقع أن الاقتصادات المحلية المختلفة لها احتياجات مختلفة على أي حال.

ولنتأمل هنا اقتصاد مدينة فوشان، الذي يتباهى بفضل نشاط القطاع الخاص بنصيب فرد في الناتج المحلي الإجمالي أعلى من نظيره في بكين وشنغهاي؛ ولأن نسبة الائتمان المصرفي إلى الناتج المحلي الإجمالي في فوشان كانت 85 في المئة فقط في عام 2011- وهو مستوى أدنى كثيراً من النسبة في شنغهاي (184 في المئة) وفي بكين (221 في المئة)- فإن المدينة تستطيع أن تستخدم الأراضي كضمانة لاقتراض المال لتوسيع نطاق الاستثمار. والواقع أن السياسة الائتمانية الوطنية المحكمة، ولو أنها من المحتمل أن تكون مفيدة في بعض المناطق المثقلة بالديون، من شأنها أن تعيق مثل هذه الأنشطة المعززة للنمو في فوشان.

وبشكل أكثر عموما يتم تنفيذ أغلب الأدوات البنيوية اللازمة لتعزيز حصة السوق- بما في ذلك التخطيط، وتقسيم المناطق، والمعايير البيئية، وحقوق الملكية، وإجراءات الإفلاس- على المستوى المحلي، وبإضافة طبقة أخرى من المغايرة فقد تشهد الاقتصادات المحلية نوعاً من "التدمير الخلّاق" مع تغير نماذج النمو، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى التباطؤ المؤقت الذي يسحب مجمل النمو إلى الأسفل.

وعلى هذه الخلفية فإن أفضل طريقة لدعم التحول الاقتصادي في الصين ومنع الهبوط الحاد تتلخص في تنفيذ سياسات نقدية وائتمانية أكثر تساهلاً ومرونة، بحيث تتمكن المدن والشركات والصناعات الأكثر إنتاجية من توليد قيمة مضافة جديدة، ومع تخفيف مخاطر التضخم وفقاعات الأصول بفِعل انخفاض أسعار النفط وتراجع معدلات الطاقة الفائضة، فإن الوقت الآن مناسب لبدء هذا التحول في السياسات.

بطبيعة الحال، ربما تواجه الصين بعض الرياح المعاكسة في الأمد القريب، وبالتالي فإن ظهور التأثيرات الإيجابية لهذا التحول سوف يستغرق بعض الوقت، ومع توطيد الحكومة المركزية لسلطتها من خلال الإصلاح المالي وحملة مكافحة الفساد، فإن تنظيم المرحلة التالية من الإصلاحات البنيوية على المستوى المحلي سيتطلب تنسيقاً بارعا.

بعد عقود من النمو السريع وتجريب السياسات، ليس من المستغرب أن نشهد انحرافات دورية تنعكس في الطاقة الفائضة، ومدن الأشباح، وأعباء الديون المحلية، والآن حان الوقت للتصدي لها، ومن خلال مواجهة هذه القضايا البنيوية فقط تستطيع الصين أن تستكمل تحولها إلى "الوضع المعتاد" الجديد الأكثر تطوراً والأكثر إنصافاً وعدالة.

أندرو شنغ & شياو غنغ

* أندرو شنغ زميل متميز لدى معهد فونغ العالمي، وعضو المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة البيئي للتمويل المستدام، وشياو غنغ مدير الأبحاث لدى معهد فونغ العالمي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top