أحدثت تبرئة مبارك صدمة لدى قطاعات كثيرة من مؤيدي «25 يناير»، كما أن المواكبة الإعلامية التي مهدت لهذه التبرئة، عبر عدد من وسائل الإعلام المحسوبة على نظامه والمرتبطة به، أعطت انطباعاً بأن ثمة إرادة لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه في ظل حكمه الذي امتد ثلاثة عقود.

Ad

 لقد أظهرت القطاعات الغالبة بين المصريين مقاومة باسلة لفكرة "تديين السياسة"، أو خطف الدولة لمصلحة تنظيم أيديولوجي مغلق وسري، أو مصادرة الهوية الوطنية للدولة المصرية واستبدال هوية زائفة مصطنعة بها، تقوي النزعة الطائفية، وتجور على المساواة بين المواطنين، وتخاصم الحداثة، وتدعم الإرهاب.

ومن جانب آخر، فقد أعطت ليبيا (الجارة الجريحة الغارقة في الفوضى في الغرب) للمصريين درساً عنوانه "ماذا يحدث عندما تنهار مؤسسات الدولة؟"، كما أعطت سورية (الجارة مقطعة الأوصال في الشرق) للمصريين درساً أهم عناوينه "التكاليف المتوقعة لعمل ثوري غير محسوب وغير مستقل عن أجندات الخارج".

لم تعد القطاعات الغالبة بين المصريين راغبة في سماع "الخطاب الثوري"، أو متسامحة مع التظاهرات والفعاليات السياسية الميدانية المعارضة، بعدما ظهر الانهيار في الدولة اليمنية، وعرضت شاشات التلفزة صور المسلحين الحوثيين، في أزيائهم المحلية المدنية البسيطة، وهم يحتلون مؤسسات الدولة، وينصبون الحواجز في شوارعها، مدججين ببنادق "الكلاشينكوف".

يسمع المصريون الأخبار الآتية من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" في سورية والعراق، ويصيبهم الذعر من قصص القتل والذبح والقصف والتهجير والسبي وبقية الممارسات المجنونة التي تأتي أخبارها يوماً بعد يوم.

تتابع القطاعات الغالبة من المصريين ما يقوله أردوغان عن مصر ومسار "30 يونيو"، ويشاهدون ما تبثه قناة "الجزيرة مباشر مصر"، وما تنقله من واقع مصطنع زائف، كما يستمعون إلى بيانات ما يسمى بـ"تحالف دعم الشرعية"، ويجدونها مناقضة لما يجري على الأرض وحادة وعصبية وغارقة في الأوهام.

تتراكم تلك العوامل كلها لتصنع جداراً صلباً تتفتت أمامه محاولات البعض لإحداث الفوضى، أو تثوير الشارع، أو حرف اتجاه الجمهور نحو التذمر والتململ، أو النيل من شعبية السيسي، رغم الكثير من العوار والإخفاق.

لكن الإقرار بكل ذلك، لا يمكن أن يعمينا عن أن القطاعات الغالبة بين المصريين تجد صعوبة كبيرة في تقبل فكرة العودة إلى ما كان سائداً أيام "دولة مبارك"، بعد أربع سنوات شهدت تغيرات حادة وتقلبات مذهلة، وكلفت البنية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية خسائر فادحة، من أجل حلم الانتقال إلى ما كان المصريون قد أسموه "مصر الجديدة".

في النصف الثاني من العام الذي حكم خلاله تنظيم "الإخوان" مصر (2012- 2013)، كان كثير من المصريين يعتقدون أن أغلى أمانيهم تتلخص في إطاحة حكم مرسي بأي ثمن، لكن هذا الأمر يتغير الآن، وتتزايد الطموحات في إعادة بناء الدولة على أسس جديدة تتحقق من خلالها طموحات "25 يناير"، التي لخصها الشعار: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية".

عندما أعلن مبارك تخليه عن الحكم في شهر فبراير من عام 2011، أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تولى إدارة شؤون البلاد آنذاك عدداً من البيانات المتتالية، والتي أكد في معظمها على مفهوم "تحقيق الانتقال الديمقراطي وصولاً إلى مجتمع حر وانتخابات ديمقراطية نزيهة".

لقد جرت مياه كثيرة منذ تخلى مبارك عن الحكم، حيث حكم المجلس العسكري فترة مرتبكة ومتوترة، قبل أن يستولى "الإخوان" على السلطة، بمساندة حلفائهم في اليمين الديني المتشدد وداعميهم الإقليميين والدوليين، وصولاً إلى انتفاضة "30 يونيو" المذهلة، التي أطاحت حكمهم بمساندة الجيش، ثم صدور الدستور الجديد، وانتخاب الرئيس السيسي، والإعداد للانتخابات البرلمانية، والمقاومة الباسلة للتحدي الإرهابي، ومواجهة ممارسات "الإخوان"، واستعادة مؤسسات الدولة.

لكن شباب "25 يناير"، وكثيرا من الثوريين والإصلاحيين والمستقلين الرافضين للفساد والترهل والعجز السياسي لحكومات "الحزب الوطني"، الذي كان يرأسه مبارك، وجدوا فجأة هذا الأخير وقد بُرئ هو ورجاله من اتهامات قتل ثوار "25 يناير".

لقد أحدثت تبرئة مبارك صدمة لدى قطاعات كثيرة من مؤيدي "25 يناير"، كما أن المواكبة الإعلامية التي مهدت لهذه التبرئة، عبر عدد من وسائل الإعلام المحسوبة على نظامه والمرتبطة به، أعطت انطباعاً بأن ثمة إرادة لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه في ظل حكمه الذي امتد ثلاثة عقود.

وفي غضون ذلك، بدأت الاستعدادات للانتخابات البرلمانية، المقررة كأحد استحقاقات "خريطة الطريق"، التي تم إعلانها في 3 يوليو 2013، تُظهر دوراً واضحاً لـ"فلول الحزب الوطني"، أو تلك القيادات وأولئك البرلمانيين والحزبيين، الذين عملوا في ظل نظام مبارك، وكانوا سبباً رئيساً في اندلاع الانتفاضة الثورية التي أسقطته.

لقد عقد الرئيس السيسي لقاء موسعاً مع عدد من شباب الإعلاميين، في أعقاب صدور الحكم ببراءة مبارك نهاية الشهر الماضي، وأكد خلال هذا اللقاء أنه "لا عودة إلى الوراء"، بل إنه انتقد مبارك علناً ومباشرة للمرة الأولى، كما أعرب عن استعداده لإصدار قرار بقانون "يجرم إهانة ثورة يناير".

حاول السيسي إذن أن يقلل من الاحتقان الذي ضرب قطاعات واسعة بين مؤيدي "25 يناير" وأصاب قطاعات أخرى بين المصريين غير المسيسين، الذين استمعوا لهجمات وانتقادات وتجريم لنظام مبارك على مدى أربع سنوات، ثم صدموا بتبرئته.

يشير هذا الأمر إلى أن السيسي ربما يدرك صعوبة أن يعيد إنتاج الأوضاع التي ثار المصريون بسببها في 25 يناير، بصرف النظر عن تقييمه السياسي لتلك الأوضاع، لكن السياسات على الأرض تثير القلق من إمكانية أن تسير الأمور في هذا الطريق، خصوصاً مع استفحال أعراض "متلازمة سورية وليبيا واليمن والعراق"، التي تبقي حظوظ أي فعل احتجاجي ضعيفة وغير فاعلة، والتي تعلي خيار "أمن الدولة وبقائها" على أي خيار آخر.

ستكون الأيام المقبلة حاسمة في تقييم رئاسة السيسي، وشعبيته، وقدرته على النهوض بالتحديات الجسام التي تواجه الدولة المصرية.

لقد أظهر السيسي نجاحاً مؤكداً في قدرته على حماية الشعب والدولة من إرهاب "الإخوان" وخطلهم، كما أظهر براعة في إدارة الفترة الانتقالية الماضية، لكن المصريين ينتظرون منه اليوم أن يؤكد قدرته على بناء نظام جديد ليس له صلة بنظام مبارك، الذي سبق أن ثاروا فعلاً ضده.

* كاتب مصري