{بنت مصرية} و{الكشك}
في رحلة بحثي عن الأفلام المظلومة التي تحتاج إلى من يلقي الضوء عليها وجدتني أمام تجربتين متناقضتين بشكل كبير، أولهما فيلم من إنتاج الجامعة الألمانية في مصر بعنوان «بنت مصرية» إخراج كل من ميرنا كرم، مي عصام وميرنا مكاري، اللائي اشتركن في بطولته مع سعيد بولس وسيف هاشم، وينطبق عليه وصف {بدائي الصنعة والفكر»، فالفيلم الذي يناهض ظاهرة التحرش بالفتيات في الشارع المصري، ويندد بها، يتسم بضحالة، وسطحية، في تناوله القضية الشائكة، ولا تكاد تعرف له رأساً من رجلين، ويبدو غير مترابط، وربما لهذا السبب لم تُشر العناوين إلى المسؤول عن المونتاج، وإن كنت أتوقع أن تكون واحدة من المخرجات الثلاثة، فالفيلم يضم مشاهد مضطربة لثلاث فتيات يتعرضن للتحرش اللفظي والحركي في حياتهن اليومية، ويؤكد أن التحرش يبدأ عقب اللحظة التي تغادر فيها الفتاة منزلها، سواء أكان أثناء سيرها في الشارع أو ركوبها الحافلة العامة، ويُطالب المجتمع بأن يمنح الفتاة حقها في أن تتواجد في الشارع بحرية وأمان من دون منغصات تؤرقها أو تحرشات تؤلمها!رسالة نبيلة وعظيمة الأهمية تبناها فيلم «بنت مصرية»، وعبَّر عنها في لقطة ذات مغزى عندما أظهر المجتمع من خلف زجاج المترو الذي يعلوه الضباب وكأنه هلامي الشكل. لكن التنفيذ أحال الفكرة إلى عمل هو أقرب إلى الركاكة منه إلى العمل الفني الذي يثير المشاعر والوجدان أو حتى التربوي الذي يسعى إلى ترسيخ أفكار تحرض ضد ظاهرة التحرش، وتُسهم في تحجيمها والحد من تفاقمها، بعدما بلغت حداً لا ينبغي السكوت عليه أو القبول به. وفي سياق الركاكة نفسها، اتسم التعليق الصوتي بسطحية غير مسبوقة، وكأن تلميذة في الصف الابتدائي هي التي كتبته، فالفتاة تقول: «إحنا في بلد حضارية مش في بلد الجاهلية»، وتقول: «لبسي ماهواش ملبوس في سبيل الإغراء»، ولحظتها تستشعر أنك أمام تعليق:{فرانكو أراب»!
الفيلم الثاني يحمل عنوان «الكشك» وهو فكرة وسيناريو وإخراج جهاد عبد الناصر، الذي فاجأني كثيراً بمستواه الفني، خصوصاً على صعيد التصوير، الذي قاده ببراعة فيكتور كريدي (عرفناه من خلال فيلمي «بصرة» و{الشتا اللي فات» ومسلسلي «الخواجة عبد القادر» و{بدون ذكر أسماء»)، إذ انتهز الفرصة وسعى إلى التجريب، كما فعل في لقطة الطفل وهو يحمل صندوق زجاجات المياه الغازية، وتضافرت بقية العناصر الفنية، مثل منسق الديكور والملابس عمر مصطفى والمونتاج عمرو سعيد، لتقديم تجربة ممتعة نددت بظاهرة تشغيل الأطفال في سن مبكرة، واضطرار الأسر، بسبب العوز والفقر، إلى حرمان أطفالهم من التعليم. لكن المخرج نأى بنفسه، وفيلمه، عن الوقوع في فخ المباشرة، والشكل التعليمي المدرسي، ونجح في تكثيف مشاعر التعاطف مع الطفل «حمودة»، الذي غادر المدرسة قسراً ليعول والدته، التي أقنعته بأن «تعليم الرجالة عيب»، وعبرت عن هذا بقولها: «أنت بقيت راجل ولازم تشتغل»، وتوسطت لدى صاحب «الكشك» لتشغيله نظير جنيهات قليلة، غير مبالية بحقه الكامل في أن يعيش طفولته، ويتلقى قسطاً من التعليم يقيه المصير المجهول الذي ينتظر الجهلاء!لا أعرف جهاد عبد الناصر صاحب الفكرة والسيناريو ومخرج الفيلم، الذي تحمس الاتحاد الأوروبي لتمويله، ولا أدري ما الأعمال التي قدمها بعد فيلم «الكشك». لكن ما أستطيع الإقرار به، من دون مبالغة، أنه أظهر حرفية هائلة في توصيل رسالته، ولم ينجرف وراء الأساليب الفنية المباشرة التي تجعل من فيلمه درساً تربوياً مباشراً ومنفراً، وكان شديد البراعة في المزج بين الواقع والخيال، وبين التحريك والحي، عبر توظيف «الأراجوز» كشخصية تراثية تعلق بها «حمودة»، لأنها رسمت الابتسامة الوحيدة على وجهه البائس، وصنعت عالم الخيال الذي سيطر على مشاعره، وانتشله من واقعه القاسي، وبنفس درجة الوعي جاءت أغنية «الأراجوز»، التي كتب كلماتها أحمد حداد، ولحنها «جيمي»، وحملت إسقاطاً على واقعه المنهك، وبراءته التي انتهكت، في ظل ظروف أجبرته على أن يتحمَّل أعباء ومسؤوليات أكبر من عمره.هنا تبرز موهبة مصممة العرائس دينا عبد المجيد، ومهارة المخرج في تحريك الطفل «البطل»، والسيطرة على «أطفال الشوارع»، وإن بدا ظهور «أم نور»، ونجاحها في إقناع «أم حمودة»، بعودة «حمودة» إلى المدرسة ضرباً من الخيال، والرومانسية الدرامية غير الواقعية، لأن الأسباب الاقتصادية ما زالت قائمة، والأسرة في حاجة إلى الجنيهات التي تستدعي استمرار عمل «حمودة» في «الكشك»، والقول بأنه لحق برفاقه في المدرسة، التي منحته الجائزة الأولى عن قصة «الأراجوز» ثم كافأته بنشرها في مجلة المدرسة، لم تكن النهاية المستساغة لفيلم حرص أصحابه على الابتعاد عن السذاجة، والالتزام بالمنطق والواقعية، لكنها أقرب إلى «النهاية السعيدة» التي اعتدناها في أفلام الأربعينيات والخمسينيات!