سماحة المفتي... ما طبنا!
كنت أتوقع أن تكون خطبة المفتي العام للمملكة العربية السعودية رئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، التي يلقيها سنوياً، في التجمع الأعظم للمسلمين على صعيد عرفة، بطبيعة مختلفة وفكر جديد هذا العام، يتواءم مع الوضع الحرج الذي وصلت إليه أحوال المسلمين، بسبب الصور المفجعة التي تنقلها جميع وسائل الإعلام العالمية من جرائم ومجازر تقوم بها جماعات تحت مسمى «الدولة الإسلامية».لأننا مهما حاولنا الإنكار، ولعن تنظيم «داعش» وفكره، فإنه في النهاية صناعة تطرف فكر مجتمعاتنا بجميع مكوناتها، ومن يقود هؤلاء المتطرفين هم من أبنائنا الذين عاشوا بين ظهرانينا، وتربوا وتشبعوا من عاداتنا وممارسة أغلبية المجتمع الإسلامي العرب منهم، وتحديداً أهل الجزيرة العربية.
سماحة المفتي آل الشيخ قال في خطبته إن «ما حدث للأمة مرده معاصيها وبُعدها عن كتاب الله وسنة رسوله...»، وهنا أخالف سماحته، فلم تكن أمة المسلمين أقرب الى الإسلام بعد عهد الخلافة الراشدة، كما هي الآن، فقد فتحت عشرات المعاهد والكليات المتخصصة في الشريعة الإسلامية، خريجوها يسيطرون على أهم الوظائف، ومطابع ضخمة تطبع كتاب الله بعشرات اللغات وملايين الطبعات، وهناك آلاف دور حفظ القرآن حول العالم، ومئات القنوات التلفزيونية المتخصصة في بث الفتاوى عن كل شيء يتعلق بحياة المسلم! الشأن الإسلامي وجرعاته ودوره في مجتمعاتنا، يا سماحة المفتي، لم يكن بهذا القدر في حياة المسلمين منذ قرون، وأموال النفط جعلت مئات الملايين من الدولارات بين أيدي المؤسسات الدينية تؤثر فيها بشكل فاعل في جميع المجتمعات الإسلامية، وحتى الجاليات المهاجرة في كل أصقاع العالم، و»الحجاب» وزي نساء نجد «المغلف» يكسو شوارع تونس والقاهرة والرباط، ذلك المظهر المختلط بين الرمز الديني والسياسي، أصبح فرضاً على المسلمات حول العالم، ويجعل شكلنا مميزاً وأحياناً شاذاً أو متفرداً في كل مكان عن بقية البشر بجميع ثقافاتهم ومعتقداتهم، ولكن ما هي حصيلة ما يسمى بـ»الصحوة» التي نعيشها؟ نتائجها أننا أصبحنا مطاردين في جميع المدن والمطارات والجامعات حول العالم، وعنواناً للوحشية وقطع الرؤوس وبتر الأعضاء وبيع وشراء النساء.كل ذلك، يا سماحة المفتي، يتطلب خطاباً مختلفاً، نتصالح فيه مع كل الدنيا، ونراجع فتاوى مثل فتوى عدم تهنئة أهل الكتاب في أعيادهم، وأن نتصالح مع زماننا، ونراجع كل تزمتنا مع الآخرين، وبصفة خاصة مع إخواننا المسلمين من المذاهب الأخرى وأولهم الشيعة، فيا سماحة الشيخ آل الشيخ، متى نطرح خطاب الانفتاح ونبذ التزمت الذي يتفنن أعداؤنا في استخدامه ضدنا؟فهم يستخدمون تزمتنا وانغلاقنا وفهمنا المتجمد للدين - خاصة الإسلام النجدي- ليشعلوا معاركنا، ويصنعوا من أبنائنا «الخوارج» الذين تتكلم عنهم سماحتك، وتحذر منهم، لذا كنا بحاجة إلى خطاب بمضمون مختلف يتناسب مع الفواجع التي تمر بها أمتنا، خطاب يفتح أبواب الاجتهاد والتجديد في الشريعة الإسلامية لمواجهة ذلك الفكر المتطرف الانعزالي لأن الجمود والمراوحة في فكرنا العقائدي الذي يطغى على جميع أوجه حياتنا سيجعلانا هدفا ولقمة سائغة لأعدائنا، لذا سيكون تكرار مثل تلك الخطب التي ألقيتها الجمعة الماضية على صعيد عرفة، بلا فائدة، ولا تتناسب مع تلك المناسبات الكبرى، وستظل حالنا بوضع «لا طبنا ولا غدا الشر»!