كثيرا ما نسمع من يقول "ليس لدينا معارضة"، إلا أنه وبالرغم من وجود شيء من الوجاهة في مثل هذا القول، باعتبار أن مصطلح "المعارضة" يستخدم للإشارة عادة إلى المجموعات السياسية التي تختلف مع الحكومة على أساس ثابت وطويل الأمد، فإن لدينا في الحقيقة حراكاً سياسياً "غير متوافق" مع الحكومة، ويمكن لنا لذلك أن نقول بشيء من التجاوز غير المخل، إنه حراك معارض، وبالطبع، فإن المتابع يدرك أن هذا الحراك يقبع اليوم بكامله خارج مجلس الأمة، لأن هذا المجلس قد تمت السيطرة عليه تماما لمصلحة الحكومة. على كل حال، وإن كنت قلت إن لدينا حراكاً معارضاً أو شيئاً من معارضة، فإن الواقع يشير إلى انحسار واضح لدوره بل وجوده، أصبح أثره لا يتجاوز الأحاديث المتذمرة أو الغاضبة في الدواوين والجلسات الخاصة، وبعض المقالات المتناثرة في الصحف والمدونات الإلكترونية، وشيئا من العبارات المرتبكة غير المنظمة، التي يتم إطلاقها بشكل متقطع عبر "تويتر". يعتقد البعض أن ما أوصل المعارضة إلى هذه الحال، هو الإجراءات الشرسة التي اتخذتها الحكومة تجاه المعارضة والقريبين منها، كإجراءات سحب الجنسية والحبس الاحتياطي المتشدد وما شابه، وعلى الرغم من الإقرار بأهمية هذه "الضربات المؤلمة"، فإن وصول المعارضة إلى الوضع الحالي كان نتيجة موضوعية متوقعة نابعة من كثير من الأسباب الثقيلة المتراكمة التي سبقت "تعسف" السلطة. المؤسف في الأمر، أن هذه الأسباب لم تكن خافية على أغلب أطراف الحراك المعارض، حيث سبق أن تناولها وكتب عنها الكثير، إلا أن ذلك كله قوبل بالتجاهل أو بالتقليل من قيمته أحيانا وبالتشكيك في مقاصد من طرحوه أحيانا أخرى. أول الأسباب التي أدت إلى وصول المعارضة إلى ما هي عليه اليوم من انحسار وضعف، هو عدم امتلاكها رؤية واضحة للأهداف المرجوة وسقف المطالبات المطروحة، سواء في المنظور البعيد أو القريب، الأمر الذي أدى إلى انعدام الرؤية المشتركة بين أعضائها، مما انعكس أيضا على عدم وحدة الخطاب الإعلامي وارتباكه في أغلب الوقت، كما أن روح الاستعجال والاندفاع كانت هي الغالبة على كل التحركات طوال الوقت.

Ad

ثاني الأسباب هو عدم وجود خطة واضحة العناصر، ليس على مستوى التحرك على الأرض من ناحية البيانات والندوات والاعتصامات ومراحل التصعيد، ولا على مستوى التوعية المجتمعية ونشر ثقافة المعارضة ودوافعها، ولا على مستوى عناصر الخطاب الإعلامي ومفرداته، ناهيك عن عدم ربط أي من هذا بجدول زمني واضح ومحدد للعمل، بل تركت عناصر وأجزاء الحراك تتحرك بشكل ارتجالي، جاءت غالبا كردود أفعال على ما تقوم به الحكومة، ولن نغادر الحقيقة لو نحن قلنا إن الحكومة كانت هي "صانع الأحداث" التي جرت على الأرض في الحقيقة.

ثالث الأسباب تمثل بعدم وجود فرق عمل محددة تناط بها إدارة شأن الحراك المعارض، مما قاد إلى وقوع كثير من الاجتهادات غير الصائبة من مختلف الأطراف التي لم تكن تعي دورها على وجه الدقة ولا تعرف حدودها في العمل، دون إنكار لوجود النية الإيجابية في كثير من المرات. لم يكن هناك فريق محدد لوضع الأفكار ورسم الاستراتيجية العامة، ولا فريق محدد للإمساك بزمام العمل التكتيكي على الأرض، ولا فريق إعلامي محدد لإدارة الخطاب العلني وتوجيهه، ولا فريق محدد لتولي الجانب القانوني لتغطية الأنشطة وحمايتها قانونيا، والدفاع عن أفراد الحراك ممن قد يتم اعتقالهم من السلطة (الأمر الذي وقع)، بل ساهم الجميع غالبا في العمل في كل شيء وفي كل وقت وفي كل مكان.

رابع الأسباب تمثل بدخول بعض العناصر "الرمادية" قليلة المصداقية إلى صف المعارضة، وإحجام المعارضة عن تصفية الصفوف وتنقيتها، زعم الخشية من إضعاف الصف في تلك المرحلة الحساسة، وذلك بالرغم من بروز كثير من المطالبات المخلصة والصادقة في هذا الصدد، الأمر الذي قاد إلى العكس تماما، حيث ضعفت الصفوف، بعدما فقد قطاع كبير الثقة بالحراك المعارض لارتباط هذه الأسماء به.

خامس الأسباب هو وقوع ضحايا خلال أنشطة الحراك المعارض، سواء على شكل حبس احتياطي متشدد أو أحكام فعلية بالسجن، خصوصا في صفوف الشباب، الأمر الذي ظهر وكأنه جاء على شكل مفاجأة أو صدمة لم تكن تتوقعها المعارضة، حيث لم يظهر في مقابله أي تصد قانوني منظم، على الرغم من احتواء صفوف المعارضة العشرات من القانونيين والمحامين، الأمر الذي زاد من القلق والتوجس الشعبي من الارتباط بالمعارضة. كانت هذه أهم الأسباب التي أدت إلى وصول الحراك المعارض إلى ما هو عليه اليوم من ضعف، ولعل هناك غيرها، لكنها ستدور في فلكها غالبا. وهنا، وعلى سبيل الإجابة عن سؤال العنوان، "هل سقطت المعارضة بالضربة القاضية؟"، يمكن القول إن الحراك المعارض يرقد على أرض الحلبة، لكن لا يزال فيه نبض، وقيامه من سقطته القوية مرتهن بأمرين: الأول، تصحيحه للأخطاء التي وردت في الأسباب الواردة أعلاه، وانطلاقه من جديد برؤية أكثر وضوحا وخطوات أرسخ ثباتا، والثاني، أن يقتنع الآن، بعدما رفض ذلك طوال الفترة السابقة، أن مسيرة هذا النضال قد تطول جدا، وأن القطاف قد لا يكون قريبا، فلا يستعجل حصد النتائج، بل أن يوطّن أفراده على حكمة النفس الطويل.