هل هناك مناسبة للحديث عن الكاتب والسيناريست المبدع ماهر عواد؟
نعم، فقد تزعَّمت حملة، عبر موقع التواصل الاجتماعي «الفيسبوك» عنوانها «ماهر عواد يجب أن يعود» أردت القول من خلالها إن الرجل الذي اعتزل الساحة السينمائية، والمجتمع، واختار ألا يغادر صومعته في بيته، على غرار ما فعل العبقري جمال حمدان صاحب موسوعة «شخصية مصر»، ينبغي أن يعاود مسيرته الإبداعية، وأن أحداً من المنتجين لا يستطيع أن يجعله «قيد الإقامة الجبرية» أو يحكم عليه بالإعدام حياً، لمجرد أنه انفرد بأسلوب يصعب محاكاته، ونهج يستحيل الاقتراب منه، ولغة جعلت منه صاحب بصمة، يلجأ إلى الإسقاط والرمز من دون مباشرة أو فجاجة، ويتجرأ على «التابوهات» من دون امتهان أو ابتذال.نجحت في إقناع ماهر عواد بالخروج من قوقعته، وحضور أسبوع أفلامه الذي أرتب لتنظيمه، وتفاءلت بأن السينما المصرية لا تأكل أبناءها، أو كما يقولون في الأمثال الشعبية المصرية «تأكلهم لحماً وترميهم عظماً»! لست رجعياً أو {كلاسيكياً}، ولا أطالب بعودة {الحرس القديم}، أو أناصر {الماضي} على حساب {الحاضر} و}المستقبل}، عندما أطالب بعودة المواهب المحتجبة بفعل المناخ السيئ، لكنني شديد التعاطف مع كاتب موهوب أطلَّ علينا، في ريعان شبابه، وسرعان ما أصبح أحد أهم مبدعي السينما المصرية، بسبب قدرته الفائقة على التجديد، ورغم هذا لفظته، وأخرجته من حساباتها، قبل أن تُجبره على مغادرة الساحة، والانكفاء على ذاته، وراح يكتب السيناريو تلو الآخر، وهو يُدرك في قرارة نفسه أن مصيرها التجاهل!ماهر عواد لمن لا يعرفه هو قائد قطار التجديد والتطوير والابتكار، مذ كتب أول أفلامه {الأقزام قادمون} (1986)، الذي مثَّل اكتشافاً جديداً من حيث الشكل، وأظهر القدرة الفائقة لكاتبه الشاب، وقتها، على الاقتراب الحميمي من هموم وقضايا المجتمع برؤية لا تخلو من سخرية لاذعة إذا كان الأمر يتعلق بالسلطة والنخبة، وإصرار واضح على تثمين لحظة التنوير في حياة المواطن البسيط، والتأكيد على مواطن القوة في داخله، وتحريضه ضد أشكال القبح والزيف والظلم والعفن والفساد والاستغلال. وفي غالبية الأفلام التي كتبها ماهر عواد، تحتل لحظة التنوير مكانة مهمة، فالثورة والانقلاب على الذهنية السابقة، ومن ثم اختلاف آلية التفكير، يبدآن لديه بالمعرفة، وسقوط الأوهام، ومراجعة القناعات القديمة، التي تنهار وتتهاوى مع الوصول إلى لحظة التنوير، كما حدث مع {شهاب} (يحيى الفخراني) بطل فيلم {الأقزام قادمون} وتكرر مع {سرور} (أحمد زكي) كبير المشجعين في فيلم {الدرجة الثالثة} (1988)، الذي خدعوه بتعيينه ممثلاً عن {جمهور الدرجة الثالثة} في مجلس الإدارة، ولا يطول الوقت به قبل أن يكتشف، في لحظة تنوير، أنهم استغلوا سذاجته ليمرروا صفقاتهم القذرة، واستخدموا جهله، وحماسته، ليقيهم غضب الجمهور لحظة اكتشاف انحرافاتهم.في {الدرجة الثالثة} يتخلَّى ماهر عواد عن حذره، ويمارس النقد السياسي على نطاق واسع، فهو لا يكتفي بالتنديد بالعالم المزيف، والفساد في {الأقزام قادمون}، لكنه يمضي إلى حد تحليل {ميكانيزم} الحكم في ظل الأنظمة القمعية و}الدكتاتورية}. لكنَّ شيئاً ما أثار قلق عواد، ودفعه إلى اللجوء إلى الرمز والإسقاط في تناوله لعلاقة الحاكم والمحكوم، فالصراع في {الدرجة الثالثة} يحمل بعداً سياسياً واضحاً، والتحريض على إسقاط الأقنعة عن أباطرة الفساد خطوة أولى تقود إلى التمرد ثم الثورة، التي تنجح بانضمام الطبقات كافة، ومختلف الأجيال، إلى صفوفها، وفي فيلم {يا مهلبية يا} (1991) يبدو وكأنه يحكي معاناته، ورفيق مسيرته شريف عرفة، في مجتمع لا يُقدر قيمة الفن، ويستهين برسالة الثقافة. وفي تجربة اتسمت بالكثير من الابتكار والتجديد، على صعيد الكتابة، يعتمد عواد قالب {الفيلم داخل الفيلم}، ويُبهر المتلقي بسيناريو ثري يكسر الإيهام، ويذخر برؤية جمالية تختلط فيها الكوميديا بالفانتازيا بالتابلوهات الاستعراضية بالدراما الاجتماعية والرؤية السياسية، ويكرس {فانتازيا} من نوع جديد تؤدي فيها السخرية دوراً تحريضياً وتنويرياً، وهو شكل ومضمون انفرد به حتى يمكن القول، من دون مبالغة، إنه تحول على يديه إلى {مدرسة}، فضلاً عن الرؤية التي تجمع بين الجدة والجدية، والإسقاط على ما يعيشه الوطن، كما فعل في فيلم {سمع هس} (1991) الذي تأسى على حال وطن تضيع فيه الحقوق، وتُسلب الأعراض، ويعلو على أرضه صوت المنافقين، وزبانية السلطة، وخدام النظام ! اختفى عواد، الذي لا يجيد حرفة {العلاقات العامة}، وتوارى عن الأنظار، بعدما أيقن أن المناخ لم يعد مواتياً، وأنه ظهر في الزمن الخطأ، وانقطعت أخباره بشكل يثير الأسى والأسف، وكأن ثمة مصلحة للدخلاء والطفيليين من تجار السينما في تغييب المبدعين الحقيقيين، والإبقاء على الانهيار الذي يجثم على أنفاس السينما المصرية، كونهم أول من يُدرك أن عودة قامة كبيرة مثل ماهر عواد تعني عودة الروح إلى الإبداع والابتكار والخيال والتمرد الجميل!
توابل - سيما
فجر يوم جديد: {ماهر عواد}
01-12-2014