أصدر سعيد عقل "الذي غادرنا عن عمر جاوز المئة" كتابه الشعري الأول "بنت يفتاح" عام 1935، وبعده بسنوات ثلاث أصدر الياس أبو شبكة ديوانه الأول "أفاعي الفردوس". ولكن الشاعرين اللبنانيين بدآ الكتابة والنشر في زمن متواقت قبل ذلك. والفارق الكبير بين عالميهما الشعري يلقي مزيداً من الضوء على قيمة كل منهما. فالأول ربط الشعر بالجمال، صارت القصيدة بين يديه قطعة فسيفساء آسرة للنظر. ولا غرابة أن أرى في شعره سمة "الرمزيين"، وأقاربه بالفرنسي ﭭيرلين. الفارق أن ﭭيرلين لم يُقصر شعره بتطرف على الغزل، وعلى رصد مشاعر الحب بين الرجل والمرأة، ورصد مفاتن الطبيعة. وفي منتصف الأربعينيات ظهر الدمشقي نزار قباني في "قالت لي السمراء"، ليرث منه هذا الافتتان بربط الشعر بالجمال، وقصره على المرأة وحبها. على أن نزار ذهب أبعد قليلاً في رصد سيكولوجية المرأة. شاعر "أفاعي الفردوس"، اتخذ وجهةً معارضة تماماً، حين ربط الشعر بالأخلاق. انتفض والمعول في يمينه على قيم بعينها، وجعل القصيدة مفكرة: نفض الشعر عن ردائه الجمالي وجعله فعّالاً. نفض المرأة عن رداء الدمية اللذيذة الحلوة، وأقحمها في محور ميتافيزيقي لا عهد لها به: محور الخير والشر، الذي يتوزع الطبيعةَ، والانسان، والله والمصير. ولا غرابة أن أرى في شعره سمة الرائي الذي يطمع في إرباك الحواس، فأقاربه بالفرنسي رامبو:
إن في الحسن يا دليلةُ أفعى كم سمعنا فحيحها في سريروالبصير البصير يُخدع بالحسن وينقاد كالضرير الضريرأو مطلع قصيدته الشهيرة "سدوم":مغناكِ ملتهبٌ، وكأسكِ مترعة فاسق أباكِ الخمرَ واضطجعي معهولم يرث شعره أحدٌ من ساحل المتوسط، ذي الطبيعة السيراميكية المترفة. بل وجد صداه العميق في عدد كبير من رواد القصيدة الحديثة في بغداد، وخاصة بلند الحيدري، وحسين مردان.الشاعر الذي يعقد الشعرَ بأواصر الجمال لا يتمتع بمناعة مضادة للأهواء المتدنية، كالهوس بالانتساب العقائدي، أو ما يشبهه من هوس النرجسية، أو الشهرة والمجد، التي تُضعف البصيرة، أو تعميها. الشاعر الذي يربط الشعرَ بأواصر الأخلاق تام المناعة، من أنْ يكون مُعتقل العقل والروح للفكرة المقدسة، أو الوطن المقدس، أو العنصر المقدس. وبالتالي فهو تام المناعة من توليد الأعداء، ومن عنصر الكراهية. يهتك الدنيا التي لا تتمتع بالهارموني العادل التوازن طمعاً بالأسمى "رامبو". أو يُطل عليها مشفقاً حدباً (المعري)، ولا فرق بين النشاطين. وهذا ما منحته "أفاعي الفردوس" لي، ولقارئها جملةً.حين نضبت الحاسة الجمالية بفعل الزمن، لأنها لا تملك جذوراً عميقة في تربة النفس، والمقتصرة على المرأة بالضرورة، بحث نزار قباني عن بديل لا شأن له بالجمال، ولكنه وليد الفقر الأخلاقي، والمخلفات السيكولوجية للنزعة الجمالية: مواصلة تغذية الإيمان بالفكرة، تغذية النرجسية، تغذية الحاجة للشهرة... الخ. فوجدها جاهزة بعد نكسة يونيو فصار يكتب بالسكين، بدل قصائد الحب والحنين، على حد تعبيره. سلعة بالغة الرواج في السوق. ولكن الرائع أن الوليد الشائه للنزعة الجمالية لا يستطيع أن يغيّب قصائد المرحلة الأولى، الوفية لحاسة الجمال حقاً.الذي حدث مع الرائد سعيد عقل لا يختلف كثيرأ. فهو بعد أن نضبت النزعةُ الشعرية الجمالية، تورّمت لديه مشاعرُ حب لبنان، فرفع هذا الحب إلى مستوى التقديس. صار لبنان رمزاً مقدساً، لا وطناً. وتقديس الفكرة والرمز يعمي البصيرة، وعادة ما يتطلب أعداءً، وكراهية بالتالي. ولقد انحدر سعيد عقل إليها، وصار يتحدث بكراهية سياسية عمياء، شأنه شأن السوقة في معترك السياسة العربية. الشاعر الأخلاقي لا كراهية لديه، لأن شاغله هو التباس الانسان على الانسان، بتعبير التوحيدي. هو التباس القيم، الحياة، الكون. ولكن الرائع، كما قلت، أن الوليد الشائه للنزعة الجمالية لا يغيّب قصائدها الوفية:ــــ من يغنيكِ، إن أنا لمْ ألوّن لكِ السحر؟ـــــ بلبلٌ مرّ من هنا، يوم قلّدتَني القمرْ.ـــــ وإذا الغصنُ ما سكنْ، تحت ريحٍ لم تهمُدِ؟ـــــ قلتُ: "يا بلبلي الحسنْ هاك فاصدحْ على يدي"ـــــ وإذا اشتال ما انثنى، ونأى في مَدى الفِكرْ؟ـــــ لا تلمه، وبسمنا شاءَ أنْ يُسكرَ البشر- بلبلٌ مرَّ من هنا، يوم قلّدتني القمر.
توابل - ثقافات
شاعر النزعة الجمالية
04-12-2014