الحرية في مقابل الاستقرار الدكتاتورية أسوأ من الفوضى

نشر في 15-10-2014 | 00:02
آخر تحديث 15-10-2014 | 00:02
No Image Caption
ثمة سبب وجيه دوماً للاحتفال بإسقاط حاكم استبدادي، لكن أثبتت نتائج حرب العراق ونشوء {الدولة الإسلامية} بأبشع طريقة أن الخيار البديل قد يكون أسوأ. {شبيغل} طرحت السؤال وعادت بالأجوبة.
في منتصف شهر أبريل من عام 2003، نشر الكاتب الألماني هانز ماغنوس إنزنسبيرغر مقالة في صحيفة {فرانكفورتر تسايتونغ} حيث احتفل بسقوط صدام حسين. فكتب عن فرحته {العميقة} وحتى شعوره بالنصر حين علم بنهاية الحكم الدكتاتوري الوحشي في العراق. كانت المقالة مليئة بالازدراء والسخرية تجاه المشككين الذين حذروا من قرار الغزو الذي اتخذه الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن.

في تلك الفترة، شعرتُ بالحماسة بشأن مقالة إنزنسبيرغر. فقد كان من الأصوات القليلة التي تجرأت على التصدي للمعارضة شبه الموحدة للعملية الهجومية الأميركية في العراق. قبل اندلاع الحرب مباشرةً، زرتُ شمال العراق، بما في ذلك حلبجة، حيث قتل صدام آلاف الأكراد العراقيين بالغاز السام في عام 1988. قتل الغاز الأولاد الذين كانوا يلعبون في الشوارع والنساء في طريقهن إلى السوق. قابلتُ ناجين كادت تتدمر رئتهم: إنهم أشخاص عاشوا موتاً مؤلماً طوال 15 سنة منذ الاعتداء. ترمز حلبجة، أكثر من أي مدينة أخرى، إلى جرائم صدام المرتكبة ضد شعبه. صحيح أنني لم أكن أؤيد حرب العراق، لكني فهمتُ بعد زيارتي أن إسقاط حاكم دكتاتوري هو مدعاةٌ للفرح.

لكن في النهاية، تبين أن المشككين كانوا محقين. في عام 2003، ظن إنزنسبيرغر أن التقديرات التي تشير إلى موت 200 ألف شخص في العراق نتيجة الغزو كانت مبالغاً فيها على نحو سخيف. لكن تشير الدراسات الجدية إلى تجاوز ذلك العدد خلال السنوات الحادية عشرة التي تلت سقوط صدام. غرق العراق والمنطقة كلها في الفوضى والاضطرابات، ما فتح المجال أمام انتشار التطرف بقيادة {الدولة الإسلامية}.

تتعدد الأسباب التي تبرر البهجة عند انتهاء حكم دكتاتوري. في المقام الأول، يعني ذلك أن مجرماً ما عاد في موقع السلطة. وثمة احتمال في أن تترسخ الديمقراطية بدل حكمه. يظن البعض أيضاً أن كل شيء يبقى أفضل من الاستبداد.  لكنّ هذه القناعة الأخيرة خاطئة.

ما هو دور الدولة؟

أثبتت أحداث العقد الأخير وجود أمر أسوأ من الحكم الدكتاتوري، وأسوأ من غياب الحرية، وأسوأ من الظلم: الحرب الأهلية والفوضى. تثبت {الدول الفاشلة} التي تمتد راهناً من باكستان إلى مالي أن الديمقراطية ليست البديل الحتمي للحكم الدكتاتوري، بل إنها الفوضى في أغلب الأحيان. في السنوات المقبلة، لن تتحدد السياسة العالمية بمظاهر الانقسام بين الدول الديمقراطية والدول الاستبدادية بل بين الدول الفاعلة وغير الفاعلة.

الحكم يعني النظام. بالنسبة إلى توماس هوبس، أب العلوم السياسية المعاصرة، كانت وظيفة الدولة الأصلية تقضي بفرض نظام قانوني لكبح {الحالة الطبيعة}. في كتاب {الطاغوت} الذي كتبه في القرن السابع عشر في ظل الحرب الأهلية الإنكليزية، اعتبر أن احتكار الدولة للعنف كان شرعياً عند استعماله لحماية حياة وأملاك المواطنين في تلك الدولة. لكن حين لم تعد الدولة تستطيع ضمان النظام، برز تهديد بشن {حرب كل إنسان ضد كل إنسان}. عنى ذلك أن الحالة الطبيعية تفترض أن تتولى الدولة التي يرمز إليها {الطاغوت} مهمة الترويض.

في البند رقم 1525 بعنوان {ضد القتلة، جحافل اللصوص من الفلاحين»، أيد مارتن لوثر وقف حرب الفلاحين الألمان بشكل صارم ومستقل. كان لوثر يتعاطف بشدة مع شكاوى الفلاحين لكنه عاد ونفر منها بسبب استفحال العنف والفوضى في ثورتهم. كتب لوثر عن ضرورة التعامل مع الثوار بما يشبه «قتل كلب مسعور».

اختبرت ألمانيا فترة مطولة من الفوضى، منذ 400 سنة تقريباً، خلال حرب الثلاثين عاماً. في فترة السلام والاستقرار الطويلة بعد الحرب العالمية الثانية، صرنا في الغرب ننظر إلى الاستمرارية السياسية كمعيار أساسي. خلال عقود الحرب الباردة، لم ينجم تهديد أوروبا الغربية عن الدول الضعيفة وأمراء الحرب والمنظمات الإرهابية بل عن الشيوعية. تميزت تلك الحقبة بمواجهة بين الديمقراطية الغربية والدكتاتورية الاشتراكية: كانت الديمقراطية نقيض الدكتاتورية.

أكدت الثورات السلمية في أوروبا الشرقية خلال التسعينات على هذا الرأي. في تلك البلدان، لم يؤدِّ انهيار الأنظمة الدكتاتورية الاشتراكية إلى انتشار الفوضى بل إلى ترسيخ نظام ديقمراطي جديد. هذا ما أنشأ الوهم حول ضرورة إزالة العوائق كي تنشأ الديمقراطية بشكل شبه تلقائي.

النموذج الروسي

في روسيا، فشلت المرحلة الانتقالية من النظام السوفياتي إلى الديمقراطية. بعد نهاية الاشتراكية، تمكن الروس من التصويت في انتخابات ديمقراطية بدرجة معينة وجرت خصخصة الاقتصاد. لكن لم يترسخ حكم القانون. بل طغت مظاهر النزوات والفساد واحتكر الأقوياء السلطة. بدأت الشيشان تحارب من أجل الاستقلال وبدأت الدولة تتفكك.

هكذا كان الوضع حين عيّن بوريس يلتسن فلاديمير بوتين رئيساً للوزراء في عام 1999. بالنسبة إلى يلتسن، بدا بوتين الذي كان رئيس الاستخبارات المحلية الشخص الوحيد القادر على ضمان تماسك البلد. كانت مهمة بوتين حين تولى الرئاسة الروسية بعد فترة قصيرة تقضي بالانتقال من دولة منهارة إلى دولة فاعلة.

كما طُلب منه أن يقود بلداً شاسعاً وغير مكتظ حيث كانت سيطرة الدولة هشة دوماً. يقول مثل روسي: {روسيا كبيرة والقيصر بعيد جداً}. لا يزال نطاق حقبة {سموتا}، أي حقبة الفوضى والاضطرابات في بداية القرن السابع عشر، حاضراً في تاريخ روسيا. لكن وفق الكثيرين في البلد، يُعتبر عهد القبضة الحديدية برئاسة بريجينيف من أسعد الفترات في الزمن المعاصر.

في يوغوسلافيا، اتضح لاحقاً أنه من الأسهل إسقاط الحكام الدكتاتوريين لإنشاء الديمقراطيات. صحيح أن بضعة أسابيع من القصف تكفي عموماً لإيذاء الأنظمة الاستبدادية بشكل فادح (كتلك التي أدارها ميلوسوفيتش وصدام والقذافي أو الملا عمر). لكن حتى في أوروبا، حيث الأراضي صغيرة نسبياً مثل البوسنة والهرسك وكوسوفو، تطلّب إنشاء دول شبه مستقرة مع حكومات ديمقراطية بدرجة منطقية سنوات عدة.

كانت الجهود المبذولة على مستوى المال والعمل هائلة. طوال سنوات، كانت السيطرة في البوسنة بيد الممثل السامي في البوسنة والهرسك، وهو مكتب نشأ بموجب اتفاقية دايتون للسلام، بينما أدارت الأمم المتحدة البلد في كوسوفو.

أهمية الاستقرار

هذه المعطيات كلها تطرح هذا السؤال: هل الاستقرار يشكّل قيمة بحد ذاتها؟ كل من أجاب بطريقة إيجابية يُعتبر ساخراً ويستخف بأهمية الحرية وحقوق الإنسان. لكن ثمة حقيقة مزعجة: غالباً ما يتم تفضيل الدكتاتورية على الفوضى. لو حصل الناس على فرصة الاختيار بين دكتاتورية فاعلة ودولة فاشلة أو متصدعة، غالباً ما تكون الدكتاتورية أهون الشرور. ويظن معظم الناس أن العيش الآمن نسبياً مع حد أدنى من العدل هو أهم من الحريات الفردية والديمقراطية المترسخة.

يسهل أن نعتبر هذه الأنواع من السلوكيات تراجعاً عن منافع الديمقراطية الغربية. حين أسأل أصدقائي الإيرانيين عن السبب الذي يمنعهم من الثورة ضد النظام الإسلامي الذي يكرهونه، هم يجيبون بأنهم لا يريدون إطلاق أي ثورة لأنها قد تزيد الوضع سوءاً. هم يعلمون ما يتحدثون عنه، فقد وقعت الثورة الأخيرة منذ 35 سنة فقط.

تولّد الفوضى السياسية توقاً إلى النظام، بأي ثمن أحياناً، ما يمهد الطريق لوصول المتطرفين إلى السلطة. حصل ذلك في ألمانيا في نهاية عهد جمهورية فايمار. في روسيا، ظهرت النزعة الستالينية غداة الثورة والحرب الأهلية. وفي أفغانستان، أدت فترة الاضطرابات التي تلت الانسحاب السوفياتي إلى نشوء طالبان. وها قد ظهرت {الدولة الإسلامية} الآن في العراق وسورية.

لهذا السبب، يُعتبر نطاق الفوضى السياسية الممتدة من باكستان إلى مالي مربكاً. في العراق وسورية واليمن وليبيا، فقدت الحكومات المركزية السيطرة على مساحات واسعة من أراضيها وأصبحت بلدان كاملة غير قابلة للحكم. تتحارب القبائل والعشائر في ما بينها، بينما يفرض أمراء الحرب سيطرتهم على المنطقة، إلى أن يفقدوا السيطرة مجدداً على الأقل.

كان فشل ترسيخ الديمقرطية في العراق وفشل {الربيع العربي} في سورية كفيلَين بإنشاء {الدولة الإسلامية}. في أيٍّ من هذين البلدين، ما من فرصة واقعية راهناً كي تنجح الديمقراطية. ربما يقضي أفضل حل للوضع السوري (ولا نتكلم هنا بأسلوب ساخر) بحصول انقلاب عسكري ضد الأسد. هكذا سيتخلص البلد من حاكمه الدكتاتوري تزامناً مع الحفاظ على مركز السلطة في البلد، أي الجيش السوري، كي يتمكن من مقاومة {الدولة الإسلامية}.

نقاش محق

هذا النوع من النقاش ليس جذاباً فهو يعكس جانباً من الواقعية السياسية الرائجة. إنه اعترافٌ بعجز الغرب وقدرته المحدودة على تصدير قيمه وأسلوب حياته. يبدو وكأنه يبيع المُثل العليا. غالباً ما تُستعمل هذه الحجة أيضاً لتبرير التعامل مع الحكام الدكتاتوريين، والأسوأ من ذلك هو أنها تمنح هؤلاء الحكام تبريراً لسياساتهم القمعية.

لكن لا يعني ذلك أنها مقاربة خاطئة. يزداد عدد الدول الفاشلة في العالم. وفق مؤشر هشاشة الدول الذي صنّفه صندوق السلام، ارتفع عدد الدول التي تسجل معدل {تأهب فائق} أو {تأهب مرتفع} من 9 إلى 16 منذ عام 2006. في المقابل، بالكاد حقق انتشار الديمقراطية والحرية أي تقدم. وفق منظمة {فريدوم هاوس}، لم يتغير الكثير منذ عام 1998 غداة ارتفاع ملحوظ في عدد الدول الحرة في بداية التسعينات.

يمكن أن تنجح الديمقراطية حصراً ضمن بيئة تشمل حداً أدنى من الاستقرار. لكن لا يمكن أن ترسخ بالضرورة هذا الاستقرار بنفسها. في العراق ومصر فشلت تلك العملية، حتى الآن على الأقل. في أفغانستان، لم تتوسع سلطة الرئيس حامد كرزاي الذي فتح المجال أمام وصول خلفه في نهاية سبتمبر، ولم تتجاوز حدود العاصمة كابول رغم الدعم الغربي الهائل. لم يتأكد بعد ما إذا كان حكم القانون الأولي الذي ترسخ هناك بعد 13 سنة من التدخل الغربي سيصمد غداة رحيل قوات {إيساف} في نهاية هذه السنة.

كتب خبير القانون الدستوري إرنست فولفغانغ بوكنفورد أن البلدان الحرة تزدهر في ظروف لا تستطيع ضمانها. من دون عملية التعلم الثقافي (كتلك التي خاضتها أوروبا على مر القرون)، لن يكفي إسقاط دكتاتور وإجراء انتخابات لترسيخ الديمقراطية. لذا يجب أن يقدّر الغرب قيمة الدول الفاعلة بدرجة أكبر مستقبلاً.

رغم توق الغرب إلى رحيل الأنظمة الاستبدادية في روسيا والصين وآسيا الوسطى وأماكن أخرى، لا بد من تقييم الخيارات البديلة بجدية. وفي المرة المقبلة التي يفكر فيها الغرب بالتدخل (سواء عبر التدخل العسكري أو العقوبات أو دعم قوى المعارضة)، يجب أن يفكر بتداعيات إسقاط الدكتاتور. إنه الطرح الذي قدّمه الرئيس الأميركي باراك أوباما حديثاً لتبرير تردده في استعمال القوة: {هذا هو الدرس الذي أطبقه الآن في كل مرة أسمع فيها هذا السؤال: {هل يجب أن نتدخل عسكرياً؟ هل لدينا جواب لما سيحصل لاحقاً؟}.

يعتبر هانز ماغنوس إنزنسبيرغر الآن أن إسقاط صدام وحرب العراق يعكسان ضرورة تغيير الرأي الشخصي من وقت لآخر. في مهرجان أغسطس الأدبي في بوتسدام، قال إنه {فشل فشلاً ذريعاً} في المقالة التي كتبها.

back to top