فوجئت بالمخرجة اللبنانية لارا سابا، بفيلمها الجريء «قصة ثواني»، الذي عرضه مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية في دورته الثالثة (24 – 31 يناير 2015)؛ إذ بدت وكأنها تُقدم لنا «بيروت» التي لا نعرفها... بيروت الحقيقية بعيداً عن متعة التزلج في فاريا، ورفاهية التسوق في سوليدير، بل إن صخرة الروشة في فيلمها تُنذر بالخوف والخطر، وكأنها منصة للمُقدمين على الانتحار، بأكثر مما هو معروف عنها كمعلم سياحي شهير.

Ad

اعتمدت لارا سابا في سيناريو فيلم «قصة ثواني» طريقة سرد غير تقليدية؛ حيث تبدأ الأحداث ليلاً برجل وامرأة في سيارة يستمعان إلى أغنية «انت عمري»، لكن سعادتهما لا تدوم طويلاً بعد أن تداهمهما سيارة تطيح بهما، وبسيارتهما. وفي المستشفى نرى الفتاة «نور»، التي يتضح أنها ابنة الرجل والمرأة اللذين صرعهما الحادث المروري، لكن السيناريو لا ينجرف وراء مأساة الفتاة، التي تعمل مضيفة في كافيه، وتعاني وجدتها المكلومة، الفقر وشظف العيش، وإنما يستعرض شرائح متعددة من النماذج الإنسانية التي تعيش في بيروت المتناقضات... بيروت التي تعاني انفصاماً هائلاً.

مثلما رأينا «نور»، التي وجدت نفسها، فجأة، محاصرة بالذئاب البشرية، في الكافيه الذي تعمل فيه، ومطالبة بسداد الفواتير المالية المتأخرة للبنك وشركة الكهرباء، تابعنا مأساة الصبي «مروان»، الذي اضطرت أمه، بسبب الفقر وأبيه الذي هجرها وابنها، إلى إدمان الخمر، وبيع جسدها، وتركت «مروان» نهباً لعشيقها، الذي انتهى من الأم فاتجه إلى العبث بجسد الابن، الذي انهار نفسياً، وتراجع دراسياً، ولم يكتف بالهرب من المنزل، وإنما اتجه إلى مصادقة ثلة من الأشرار والبلطجية، ممن اعتادوا سرقة حقائب السيدات والفتيات في قلب بيروت، والانغماس معهم في جلسات تعاطي الحشيش والمخدرات التخليقية!

في المقابل، رصدت المخرجة لارا سابا أبشع التناقضات التي تعيشها بيروت، عندما ألقت الضوء على «أنديا» ابنة الطبقة الارستقراطية التي درست في باريس، وعادت لتعلم فن الرسم للأطفال، ثم تزوجت الثري «مالك»، ولا يشغلها في حياتها الغارقة في ارتداء الحلي الثمينة، واقتناء الأحجار النفيسة، سوى الإنجاب، بينما تبدو أمها مشغولة بتهذيب حديقة الفيلا التي تسكنها، وتعنيف خادماتها اللائي ترى أنهن لا ينفذن أوامرها وفرماناتها!

على عكس الأفلام الكثيرة التي اختارت تقديم بيروت من منظور «الكارت السياحي» أو المدينة المدمرة التي عانت ويلات «الحرب الأهلية»، يكتسب فيلم «قصة ثواني» (لبنان/ الإمارات 2012) أهميته من اقترابه، لدرجة القسوة، من العالم السفلي الذي تعيشه العاصمة في الوقت الراهن، ولم تأبه بالاتهامات التي يمكن أن تلاحقها، كالعادة في مثل هذه الأحوال، بحجة أنها تسيء إلى سمعة لبنان؛ فالطبقة المتوسطة التي انهارت (رمزت إليها في الفيلم بالفتاة «نور») اضطرت إلى التنازل عن مبادئها، والتنازل عن اعتزازها بنفسها وشخصيتها، ولجأت إلى بيع جسدها من أجل أن تقاوم ضغوطات الواقع. والطبقة الفقيرة (عائلة «مروان») تحولت نساؤها إلى فتيات هوى وأطفالها إلى «جرذان»، وراحوا ضحايا للسموم، سواء الكحول أو المخدرات، بينما تصل الرفاهية بالطبقة الارستقراطية، التي استمرأت اللهو والعبث وتنظيم الحفلات بمناسبة ومن دون مناسبة، إلى ارتكاب فعل الخيانة. وفي ما يشبه النبوءة التي تحذر من صدام وشيك بين طبقات المجتمع وشرائحه تقدم لارا سابا مشهداً يتسبب فيه الصبي «مروان» في إجهاض السيدة الارستقراطية «أنديا»، أثناء قيامه بخطف حقيبة يدها، وتقدم الصبي في مشهد آخر، وهو على فراش الموت نتيجة تعاطي جرعة زائدة من المخدرات التخليقية، وتكاد تصرخ في وجوهنا مُنددة بالانتهاكات التي تقع على مرأى ومسمع منا، والمستقبل الذي ينهار تحت أعيننا!

في خلفية أحد مشاهد فيلم «قصة ثواني» تُشير المخرجة لارا سابا إلى لافتة تقول بالإنكليزية:»لبنان يشتعل»، ومن مشهد إلى آخر يتأكد المعنى، وتبدو «النار تحت الرماد»، ولا يجد المتلقي صعوبة في التواصل مع الرسالة التي يتبناها الفيلم، والشعور بالخطر الذي يتهدد الوطن في حال استمرار الانهيار الاجتماعي الحاصل نتيجة الأزمة الاقتصادية، والتفاوت الطبقي الهائل، والانفلات الأمني الذي كشفت عنه المخرجة بالغياب التام لأجهزة الأمن، وتدهور الأحوال في الشوارع من دون حسيب أو رقيب. غير أن النقطة اللافتة التي ينبغي الإشارة إليها أن سيناريو الفيلم واصل إبهاره، وطريقته المميزة في السرد، عندما جعل من المستشفى، الذي استقبل الرجل والمرأة عقب حادث السيارة، ملتقى الشخصيات الكثيرة التي تناولها الفيلم؛ فالفتاة «نور» تفقد والديها بين أروقته، وتنهار حياتها بعد مغادرته، والصبي «مروان» يرقد فيه عقب تعاطيه الجرعة الزائدة، قبل أن يهرب منه خشية عقاب السلطات، بينما السيدة «أنديا» تُجهض فيه. بل إن معاناة «مروان» ذكرت الطبيب المعالج بمعاناته مع مجتمع ينهار تحدثت عنه أغنية الراب التي أشارت إلى «الأحياء الموتى» و{الأوهام والألغام»!