نكبات ونكسات!
ارتبط شهر مايو في الذاكرة العربية بنكبة فلسطين 1948، في حين ارتبط يونيو بهزيمة كبرى للعرب أطلقوا عليها «نكسة 1967» تخفيفاً لوقعها المعنوي في نفس الشعب العربي الذي أصاب عزته وكرامته.في منتصف مايو 1948، قامت دولة الصهاينة على أرض فلسطين علناً، وبكل ما في هذا الإعلان من تفاصيل تخطت كل الأعراف والقوانين الدولية وبدعم دول كبرى سجل لتاريخها عاراً.
في الوقت ذاته، بدأت رحلة العذاب الفلسطينية لتمر بأحداث أكثر جسامة وضراوة أكبر بكثير من قدرات شعب أعزل قدم الشهداء على أمل عودة قريبة، لكن أمدها تجاوز السبعة والستين عاما دون أن يفقد هذا الشعب أمله في العودة، وقيام دولته التي تم اختصارها بحدود نكسة 1967 التي هي أقل بكثير من حقه.مرارة شهر مايو، الذي ارتبط بتكريس الهجرة كأمر واقع على الشعب الفلسطيني والعربي، ستبقى في حلق الأجيال يتوارثونها وهم يتدارسون التاريخ الذي تلاها، وما فيه من نكبات أخرى ونكسات لا تقل كارثية عنها.وبينما تحتفل دولة الاحتلال في هذا اليوم سنوياً بعيد استقلالها، فقد ضاعف ألم هذه الذكرى أن «دولة الاحتلال» اطمأنت إلى وجودها كحقيقة، بعد أن حل الوهن بالعرب الذين شاركوا في شرعيتها باتفاقيات ومبادرات ومؤتمرات ولجان وغيرها، في حين أنها تصر على تنفيذ مخططاتها الكثيرة! لم يسلم الشعب الفلسطيني في بلاد المخيمات من ملاحقة العدو الصهيوني للقضاء على كل ما يذكره بأن هناك شعبا اغتصبت أرضه ومازال على صموده، فقد تعرضت مسيرة النضال الفلسطيني منذ نكبة 1948 إلى هزات كثيرة كادت تعصف بكل طموحاته، خصوصاً انطلاق المقاومة الفلسطينية 1965، وما حققته فيما بعد من اعتراف بممثل فلسطين الشرعي «منظمة التحرير الفلسطينية» عربياً ودولياً، فانعكست عليها آثار نكسة 1967 التي أتت على ما تبقى من أرض فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة) وهي «نكسة النكسات» إلا أن المقاومة الفلسطينية صارت الأمل الوحيد في تلك الفترة للشعب العربي بعد هذه النكسة، فالتف حولها أبناء فلسطين، ورأى فيها العرب قوة أتت في وقتها رغم آلام الهزيمة لتثبت يقينهم بضرورة تحرير ما سقط من الأرض محتلاً، ولترفع من معنوياتهم.وما بين نكبة 1948 ونكسة 1967 قامت دولة الاحتلال بكثير من الأعمال الانتقامية والقصف، خصوصا على قطاع غزة الذي كان يقض مضجعها بعدد قليل من «الفدائيين» الذين كانوا تحت قيادة الشهيد المصري البكباشي «مصطفى حافظ»، حيث إنه منذ عام 1955 أصبح مسؤولاً عن تلك الكتيبة التي أنشئت لمواجهة الوحدة رقم 101 التي شكلها في تلك الأيام الإرهابي «أرئيل شارون» لزرع الرعب والموت في القرى الفلسطينية، ورفع معنويات السكان والجنود الإسرائيليين، وقد اغتيل بطرد بريدي إسرائيلي ملغم في يوليو 1956.وسقطت غزة تحت الاحتلال الصهيوني إبان العدوان الثلاثي على مصر، لكن السقوط الذي غير مسار القضية الفلسطينية كان ما بعد «النكسة» التي كانت قمة النكبات العربية لما ترتب عليها من ضعف للأمة التي كانت قياداتها ترفع شعار أنها ستلقي إسرائيل في البحر، في حين كانت الأخيرة تجهز وتعد لكل خطة ما تحتاجه من قوة وقدرة وتحد للرأي العام العالمي بحروب تكررت وما زالت حتى يومنا هذا، ولكن بأشكال جديدة وباتت تملي شروطا.وبعد أيام تحل ذكرى «نكسة النكسات يوم 5 يونيو» وكأن القدر منحنا حقا مميزا دون بلاد العالم بأن نحيي ذكريات نكباتنا ونكساتنا أكثر من الاحتفال بانتصاراتنا.«النكبات والنكسات» العربية لا تختلف في نتائجها، وباختصار دون الدخول في تفاصيل معروفة، فقد أصاب الأمة إحباط وتفسخ أتياً على كل القيم الوطنية التي تربت عليها أجيال، وتوارثتها بعزة وكرامة، وهي تعاني نكبات «داخلية» و»نكسات» تتوالى في كل بلد على حدة، وكأنها «تتفنن» في إذلال نفسها وتتخبط لا تدري للخروج من حالتها المتردية سبيلاً!* كاتب فلسطيني - كندا