لا أبالغ عندما أقول إنني دفعت مُسبقاً ثمن اختياري، من الناقد السينمائي سمير فريد، لمنصب مدير المركز الصحافي لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في دورته السادسة والثلاثين (9 – 18 نوفمبر 2014)، وإدارتي للمنصب نفسه أثناء رئاسة النجم حسين فهمي، وكذلك الكاتب الكبير شريف الشوباشي؛ فقد كنت في التاسعة عشرة من عمري وقت أن كنت أجوب العاصمة المصرية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، لأشاهد أفلام مهرجان القاهرة السينمائي في زمن عنفوانه، ووهجه الذي تجاوز التوقعات، وتخطى أوجه التخمينات، إبان رئاسة الكاتب الكبير سعد الدين وهبة؛ فالإقبال الجماهيري على فعاليات المهرجان كان غير عادي، ولم يكن الحضور مقصوراً على قاطني العاصمة وحدها، بل كان الجمهور يزحف من كل صوب وحدب، سواء في ضواحي القاهرة أو ريف مصر وحضره، حتى قيل إن عشاق السينما يقترون على أنفسهم طوال العام، ويرفعون شعار {ترشيد الإنفاق} طمعاً في جمع مبلغ من المال يتيح لهم شراء بطاقات دخول صالات السينما التجارية، التي تعرض أفلام المهرجان!
كان المشهد، في تلك الفترة من السبعينيات، مهيباً بالفعل، وكانت الشوارع تكتظ بالمئات من المواطنين، الذين يصطفون أمام شبابيك بيع التذاكر، في ظاهرة عجيبة ونادرة، لا تتكرر سوى مرة في العام، ما شجع عدداً كبيراً من المغامرين لاستغلال تلك الحشود الغفيرة، وتدشين ما عُرف وقتها بـ {صحافة المهرجانات}؛ حيث كان الواحد منهم يطبع آلاف المجلات التي تنتمي إلى صحافة {التابلويد}، ولم تكن في واقع الأمر سوى {نشرات صفراء} تُباع على الأرصفة، على مقربة من دور العرض، بحجة التعريف بأفلام المهرجان، بينما هي وسيلة رخيصة لابتزاز الجمهور عبر الصور العارية التي تشجعه على ارتياد الصالات، قبل أن يكتشف قطاع كبير من الجمهور أنه تعرض لعملية خداع متقنة، وأن الصور الخليعة المنشورة ليست سوى قصاصات من المجلات الأجنبية التي تتاجر بالأجساد والأعراض، و}صحف التابلويد} الشعبية الفضائحية التي تثير الغرائز وتدغدغ الحواس!في تلك الحقبة، التي لن تُمحى من الذاكرة، ظهر السؤال الشهير: {الفيلم ده قصة ولا مناظر؟}، وهو مصطلح مصري {أصيل} لن تجد له مثيلاً في العالم؛ إذ كان تكريساً لحال الحيرة، التي انتابت الجمهور في رحلة بحثه عن {دليل} يهديه إلى الفيلم الذي يستحق أن يدفع فيه حفنة الجنيهات التي ادخرها طوال العام، أو {المرشد} الذي يجنبه الوقوع في قبضة فيلم ممل يثير الغثيان، وهي المهمة النبيلة التي اختار الناقد السينمائي {الموهوب بالفطرة} سامي السلاموني أن يحملها على كاهله، وسعى بملء إرادته إلى تحمل مسؤوليتها، بالرغم من آثارها المادية السلبية، وتبعاتها الذهنية ثقيلة الوطء، وقرر أن يُصدر دليلاً، على نفقته الخاصة، تعمد أن يكون أقرب إلى {كتاب الجيب}، بالنظر إلى صغر حجمه، وبَذَلَ قُصَارَى جُهْدِهِ كي تتوافر فيه المعلومة الصحيحة، والبيانات الدقيقة، والصور ذات الصلة الوثيقة بأفلام المهرجان، ومن عام إلى آخر ظل مداوماً على إصدار {الكتيب}، متحملاً أعباء تنوء بحملها الجبال، وصابراً على كلفة باهظة، وخسائر فادحة، تقصم ظهر أقوى الرجال، إلى أن جاءت اللحظة التي استشعر فيها أنه يحرث في البحر... وآن للفارس أن يستريح!كان لمهرجان القاهرة السينمائي عبقٌ غامضٌ يطرب القلوب، وسحرٌ خاصٌ يخطف الأبصار، ومن ثم وقعت في غرامه، بعدما أدمنت طقوسه، وسرعان ما وجدتني ضحية له عندما ابتعت، وكنت انتهيت بالكاد من دراستي في إحدى كليات العاصمة، تذكرة لأشاهد فيلماً في حفل التاسعة مساءً في دار سينما {ميامي}، ولم أكن أدري أنني اخترت فيلماً سبقته دعاية ضخمة بأنه {قصة ومناظر}، وفي اللحظة التي كنا نتأهب فيها لدخول قاعة العرض فوجئنا بانتفاضة شعبية غيرت موازين القوى، وأطاحت بالإجراءات الأمنية الصارمة؛ حيث اندفع الجمهور، سواء الذين بأيديهم بطاقات الدخول أو أولئك الذين صُدموا لأن التذاكر نفدت بالكامل، باتجاه باب القاعة، وتحول المشهد إلى {موقعة حربية}، عقب تحطم زجاج الباب، وتدخل رجال الأمن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وسقط ضحايا، كنت واحداً منهم، بسبب التدافع، وتكرر مشهد عبد السلام النابلسى في فيلم {يوم من عمري}، وهو يقول لرئيس التحرير: {صورتها وأنا منبطح أرضاً}. ولم تقف المأساة عند هذا الحد؛ إذ تسبب التدافع في أن يطأ أحد {المنتفضين} بحذائه كف يدي، الذي تفجرت منه الدماء بغزارة، وعندما استجمعت قواي، وأصبحت قادراً على المشي، اتجهت إلى صيدلية {الإسعاف} الشهيرة، التي تقع على مقربة من دار سينما {ميامي}، وتلقيت الإسعافات الأولية، وعدت إلى منزلي في حالة من الإعياء والإرهاق. ومع غروب شمس اليوم التالي مباشرة كنت أقف أمام شباك التذاكر لابتاع بطاقة دخول لأشاهد أحد أفلام المهرجان، الذي لا أبالغ عندما أقول إن دمائي سالت لأجله!
توابل - سيما
فجر يوم جديد: {سحر السينما}
31-10-2014