نحو تعزيز الدولة الوطنية
إننا في حاجة اليوم إلى إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية عبر تعزيز مفهوم المواطنة الجامعة لأبناء الوطن الواحد من غير أي تمييز في التشريعات أو المعاملة، وترجمته في مناهج التعليم ومؤسسات الإعلام والوظائف العامة والمناصب القيادية.
تواجه "الدولة الوطنية" تحديات غير مسبوقة من تنظيمات تحمل السلاح، وتستهدف تدمير بنية الدولة وإضعاف المجتمعات العربية وتقويض مفهوم المواطنة، بل تدمير إنسانية الإنسان، فنحن اليوم نعيش مرحلة ما يسمى بـ"اختطاف الدولة" وسقوطها في أيدي ميليشيات مسلحة تعتنق أيديولوجيات شمولية، تريد الهيمنة على الدولة والمجتمع بقوة السلاح، ومن ثم تفكيك مؤسسات الدولة الحيوية، وخصوصاً الجيش، وهكذا ينهار مفهوم الدولة لمصلحة كيانات انفصالية متطرفة؛ عشائرية ومذهبية وطائفية. إن أخطر ما تمر به المنطقة العربية هذه المرحلة التي تتشظى فيها الدولة إلى "اللا دولة" لتعم الفوضى والاضطرابات والصراعات، فلا يؤمن الإنسان على نفسه وأسرته وماله بل إنسانيته، ولو استرجعنا أدبيات ضرورة الدولة ومبرراتها العقلية والشرعية والمصلحية، التي تقول إن الإنسان كائن اجتماعي فلا بد أن يعيش في مجتمع؛ لأنه بحاجة إلى التعاون مع غيره لتلبية احتياجاته المعيشية، ولكن الاجتماع الإنساني يلازمه التنازع المؤدي إلى المشاحنات والحروب والفوضى، بل قد يؤدي إلى الهلاك في ظل غياب دولة قادرة على منع تعدي الإنسان على أخيه الإنسان، فهل أدركنا كم نحن بحاجة اليوم إلى إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة وتعزيزه؟لقد توحشت التنظيمات المتطرفة، وداست كل القيم والثوابت، وانتهكت كل المقدسات، فهل كان "داعش" قادراً على ارتكاب فظائعه التي فاقت كل الفظائع، لو كانت هناك دولة وطنية قوية في كل من العراق وسورية؟! عندما تضعف الدولة أو تسقط تُخرج الأرض العربية أسوأ ما في باطنها من غرائز دونية متطرفة، وهويات ضارية فتاكة لا تقيم أي وزن أو اعتبار لأي قيمة إنسانية أو دينية، فثورات "الربيع" كانت "ردة فعل" على الأوضاع المتردية سياسياً واقتصادياً وثقافياً، على امتداد (6) عقود في ظل ثوار انقلبوا على ملكيات حاكمة، ووعدوا الجماهير بشعارات كبيرة ثم أخفقوا وجروا الهزائم والخيبات على أوطانهم. ولكن أسوأ ما في هذه الثورات إضعاف هيبة الدولة؛ مما أتاح للمواريث القمعية الإقصائية المختزنة الظهور لتعيث في الأرض فساداً عريضاً، تقتل وتفجر وتدمر وتروع وتهجر ملايين البشر من أوطانهم الآمنة، وما كان لـ"داعش" و"القاعدة" وأخواتهما أن ينشطوا ويجتذبوا "مرضى العقول" من شبابنا وشباب أوروبا، وينتشروا كالسرطان في الجسد العليل، ويشكلوا "طاعون العصر" لولا أيديولوجيات سبقت على أيدي قوميين وإسلاميين، دأبت على امتداد نصف قرن على هجاء "الدولة الوطنية" باعتبارها مخلفات استعمارية. والقوميون من جهتهم رأوا في الدولة القطرية تعويقاً للحكم القومي الوحدوي، والإسلاميون من جهتهم اعتبروها معبراً إلى الحلم الإسلامي (دولة الخلافة)، وها هو "داعش" اليوم لسان حاله يقول: لقد حققت الحلمين فألغيت حدود "سايكس بيكو" الاستعمارية- طبقاً للقوميين- وكوّنت "دولة الخلافة" طبقا للإسلاميين، وليس الهدف من هذا التفكيك بطبيعة الحال لوم التيارين السائدين، فلكل مرحلة منطقها ومقتضياتها وشعاراتها الحماسية التي قد يكون منطلقها النوايا الصادقة في تجاوز الأوضاع السلبية. ولكن الهدف هنا توضيح وتأكيد ما قرره مراراً المفكر الكبير علي حرب حينما قال "إن ما ندافع عنه أو نخشى عليه أو نعلي من شأنه، قد يكون هو مصدر الفشل والإخفاق، لو كان تقديس المعاني والرموز أو المثالات والنماذج مجدياً، لما حصدنا كل هذا الشقاء بعد قرون طويلة من العمل تحت يا فطته". هذا أولاً.ثانياً: إن ضعف مفهوم "الدولة الوطنية" في الوعي الجمعي العربي يرجع بشكل أكبر إلى إخفاق "الدولة الوطنية الحديثة"، ومنذ الاستقلال في إعلاء قيمة "الانتماء الوطني" وتكريسه في التربية المجتمعية باعتبارها "الولاء الأسمى" فوق كل الولاءات والانتماءات الأولية الأخرى، الطائفية والقبلية والمذهبية والأيديولوجية، لم تتحول الدولة الوطنية إلى دولة القانون والمساواة والحرية والحقوق المدنية واستقلال القضاء والإعلام الحر، ولم تستطع الدولة الوطنية دمج مكونات المجتمع الواحد دمجاً طوعياً حراً في رابطة وطنية جامعة عبر تشريعات منصفة، وعدالة اجتماعية مطبقة، وتكافؤ فرص متحقق؛ ولذلك عندما انفرط البناء السياسي لدول عربية بعد سقوط الحاكم الفرد رافقه تفكك البنية المجتمعية في أشكال انشطارية، فكأنما الدكتاتور- طبقاً لمحمد سيد رصاص- لاصق عنيف لبنية غير اندماجية، بسقوطه تفككت البنية المجتمعية وسقطت في حكم الفوضى والصراعات الدموية.إننا في حاجة اليوم إلى إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية عبر تعزيز مفهوم المواطنة الجامعة لأبناء الوطن الواحد من غير أي تمييز في التشريعات أو المعاملة، وترجمته في مناهج التعليم ومؤسسات الإعلام والوظائف العامة والمناصب القيادية، ولا يجدي الحديث الكبير والكثير والأناشيد الوطنية عن المواطنة والوطنية، إذا كانت التشريعات تمايز بين مكونات المجتمع أو كانت معاملة الدولة تقوم على شيء من التمايز المذهبي أو القبلي، ولا تفيد الخطب الوطنية إذا كان الواقع المعاش متناقضاً مع تلك الخطب والشعارات والأناشيد.ويبقى من مفارقات الدولة العربية أنها إذا تقوت عسكرياً تغولت على أبنائها، وطمعت في أختها (عراق صدام)، وإذا ضعفت طمع فيها أبناؤها (التنظيمات المسلحة).هذه خلاصة ورقتي لمؤتمر "الكويت والأمن الإقليمي" كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الكويت، بالتعاون مع جامعة درهام.* كاتب قطري