العازفون الذين التقوا "شوبرت" (1797 - 1828) على آلة البيانو ليقدموا سوناتاته الواحدة والعشرين، ويتأوّلوا معانيها وأسرارَها كثيرون: لعل أبرزهم رادو لوبو، كيمبْف، وريختر، وشنابِل، وبرينْدل، وأندْراس شِف، وأوتشيدا. 

Ad

في العام الماضي أصدر دانيل بارِنبويم السوناتات كاملة، وكان عزفه في الصدارة بشهادة محطة Classic FM. منتخبات من هذه الأعمال تُعزف من أصابعه العشر في "قاعة الاحتفال الملكية"، ولقد استطعت أن أحجز لأمسيتين، ولكني أضعت الفرصة سهواً مع إحداهما، لأنها كانت، على غير العادة، في الظهيرة، وكنت أتوهمها مساءً. والظمأ لشوبرت، ولعازف كبير مثل بارنبويم، يظل عصياً على الارتواء.

  وشوبرت، من بين كل الموسيقيين، لا يُحاوَر، يُبجّل، أو يُرهب كما كان تشايكوفسكي يَرهب بيتهوفن. بل يُحتضَن ويُعانَق. لأنه حميمي في كلّ عمل له: (600 أغنية، أكثر من دزينة رباعيات وترية، 21 سوناتة بيانو، 7 سيمفونيات وثامنة ناقصة، أوبرا، أعمال

كورال، والكثير من موسيقى الغرفة). ولكنه في حياته القصيرة لم يحظَ إلا بحفل موسيقي واحد قدمه للجمهور. في حين صرف الوقت الموسيقي بالعزف العائلي بين ثلة أصدقاء شبان من الطبقة الوسطى، مجهولين بين شاعر وكاتب. ومات على عوز وفقر بداء السفلس، وهو في الواحدة والثلاثين من العمر. وبقي المنسي سنواتٍ بعد رحيله، إلى أن فطن عددٌ من الموسيقيين الرومانتيكيين (مندلسون، شومان، براهمز، لِست) إلى الموهبة الشابة الفذة، التي خطرت بصورة خاطفة في مرحلة الانتقال من الكلاسيكية إلى الرومانتيكية.  

 أكثر سوناتات شوبرت لآلة البيانو شهرةً لديه هي الثلاثة الأخيرة (مصنف 958، 959، 960)، وبالرغم من أنه وضعها وهو في الثلاثين من العمر، إلا أنها عيّنات لسوناتة بالغة النضج، أملتها المعرفة العميقة لدى الموسيقي الشاب بأنه يعيش أيامه المعدودة الأخيرة، وتُقرن بمرحلة بيتهوفن الأخيرة حين دخل مرحلة الصمم التام وقد تجاوز الخمسين. ولم أحظَ منها بعزف السيد بارنبويم إلا بمصنف 958، وتمتد قرابة نصف الساعة. إلى جانب عملين آخرين في مرحلة أبكر. 

  سنوات شوبرت القليلة الأخيرة أنجزت أعمالاً، مع سوناتات البيانو هذه، ستظل بالنسبة لي الملاذ المختار الذي يُشبع الروح بالسكينة والطمأنينة. ففي حقل الأغنية تعتبر مجموعة "رحلة الشتاء" من القمم التي لا يطالها موسيقي، و"الخماسية الوترية" احتضانٌ لا يُسبر غوره لـ"النهاية"، الأمر الذي جعل روائيا كبيرا مثل "توماس مان" يختارها رفيق ساعته الأخيرة على سرير مرضه.

 أول حضور لبارنبويم في لندن حدث قبل ستين عاماً، حين كان في الثانية عشرة من العمر. ولقد اقتحم دهشة الجمهور بعزف سوناتة بيتهوفن المدعوة "هَمَرْكلافير"، وهي واحدة من أهم أعمال مرحلته الأخيرة، وأكثرها عمقاً وسمواً. ومع السنوات لم تنفرط صحبة بارنبويم وبيتهوفن حتى اليوم. على أن صرامة بيتهوفن، وتأمله العابس أو الغاضب يتعارض مع رقة وأسى ومسرات شوبرت. وأصابع العازف الماهر، رغم الكبر، تقسو وتلين بطواعية بين الاثنين.

  عادة ما ألاحق، بعد حضور كل عمل موسيقي أو فني أو ثقافي، المتابعات النقدية في الصحافة. ولعلي مع العروض الموسيقية أكون أكثر حرصاً، لأني لا أتمتع بمعرفة الناقد الموسيقي، في تقنيات الأداء والعزف. وفي قراءتي أقارن بين استجابتي في الإصغاء وبين استجابة الناقد. وأشعر مع هذه المقارنة بمتعة إضافية. وعبر عروض نقدية عديدة لعزف السيد بارنبويم لم تُربك واحدة منها متعتي الفياضة. وأراني أقول ما كتبه أحدهم بأنها فرصة رائعة للإصغاء لشوبرت عبر أصابع مايسترو كبير، بالرغم من أن بارنبويم أكثر ألفة مع سوناتات بيتهوفن.

 حين انتهيت من حفل "الساوث بنك"، رجعت أستعين كالعادة بمكتبتي الموسيقية، وبخزين "اليوتيوب" غير المحدود. أصغي إلى السوناتات الأخيرة، تُعزف من قبل مواهب كبيرة، وأقرن العزف الحي بالعزف المسجل، فأجد في كل منهما متعة تتفاوت درجاتٍ في اللون، والمذاق والرائحة.