أدب الرحلات نافذة التعايش الثقافي (4)
استكمالاً لصورة الرحّالة العرب الذين نذروا حياتهم للاستكشاف والتمازج الثقافي في العصور الوسطى يمكن أن نثنّي بشخصية الحسن بن محمد الوزّان، المولود ما بين 1500م – 1550م في غرناطة الأندلس قبيل سقوطها في يد الإسبان. ثم انتقل إلى فاس ليصبح سفيراً لسلطانها الذي أوفده إلى ممالك إفريقيا مثل تمبكتو وغيرها. ويبدو أن شغف السفر والاكتشاف قد تمكن منه، فزار مصر وإسطنبول وحج إلى مكة. ولعل تدابير القدر كانت تأبى إلا أن تجعله يستكمل مسيرته في الترحال وفي صنعة الأدب والكتابة، وذلك حين وقع أسيراً خلال توقف سفينته في جزيرة جربة، وتم اقتياده إلى روما غنيمة للبابا ليون العاشر، الذي حمله على اعتناق المسيحية والبقاء في روما لتدريس العربية. وقد انكبّ الحسن الوزّان بعدها على كتابة مؤلفات عدة في اللغة والأدب والجغرافيا، ولكن أشهرها في هذا المقام كتابه (وصف إفريقيا)، الذي ترجم مؤخراً إلى العربية ونشر عام 1979م على يد الدكتور عبدالرحمن حميدة. ولعله من حسن حظ المتابع لسيرة الحسن بن محمد الوزان أن يجد لها صورة إبداعية رائعة بقلم روائي متميز أجاد في رسم تلك الرحلات وتلك الحياة الممتلئة بالمغامرة والشغف والنضال، ونقصد به الروائي أمين معلوف، وروايته التاريخية المعروفة بـ"ليون الإفريقي". إن مجرد التنويه لرواية أدبية في هذا المقام الذي يدور حول قيم التسامح في الأدب، قد يعطى أبعاداً تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار. لقد كتب معلوف روايته "ليون الإفريقي" عام 1986م عن سيرة حياة الحسن الوزان، الذي توفي منتصف القرن السادس عشر الميلادي، ليبني بذلك جسراً من التواصل، ويوفر أرضية من التناصّ الحياتي والثقافي تنبض بالحيوية والحرارة.
ويبدو أن أمين معلوف وجد في شخصية (الحسن الوزان) ما يروي الظمأ إلى استشعار سعة الأفق والانفتاح على آفاق الأممية، فرسم لنا تلك الشخصية بحب وأناة، وجعله في الرواية متحدثاً عن نفسه ناطقاً بلسان حاله . لقد بدا لنا ذلك الرحّالة، الذي سيصرف زهرة عمره في الترحال والسفر، عالمي النزعة منذ البدء. فقد انطلق من غرناطة المدينة المنكوبة إلى المغرب فمصر فإيطاليا، متنقلاً بين المدن، متشرباً ثقافاتها، مائلاً مع رياحها، دون الثبات في موقع أو معتقد أو هوية. فهو، كما يصف نفسه عبر أجزاء الرواية الأخرى، رحالة بلا وطن محدد أو سمة شخصية أو لغة أو دين ! وذلك حتى يكون مستعداً لهذا التجاوز للمحدود والمغلق والمنتهي، وقادراً على التجدد دائماً، وممتلكاً لرؤية شمولية وسعة أفق. فهو واحد يتقمص آخرين، وهو مَرِن، مستجيب للتغيّر والتشكّل، لا تحكمه أيديولوجية محددة أو هوية أو لغة، وإنما يبدو أنه وسع البشرية والتأمت في نفسه العديد من التجارب الإنسانية والوجوه والشخوص عبر أسفاره وارتحالاته، فأصبح متعدد الأصوات رغم كونه واحداً، ومتعدد الرؤى والأيديولوجيات. يقول الحسن ابن محمد الوزان (الشخصية الروائية) في معرض تقديمه لنفسه في مفتتح الرواية: "خُتِنْتُ أنا حسن بن محمد الوزان، يوحنا – ليون دومديتشي، بيد مزيّن، وعُمِّدتُ بيد أحد البابوات، وأدعى اليوم (الإفريقي)، ولكنني لست من إفريقية و لا من أوروبة ولامن بلاد العرب. وأُعرف أيضاً بالغرناطي والفاسي والزيّاتي، ولكنني لم أصدر عن أي بلد ولا أيّ مدينة، ولا عن أيّ قبيلة. فأنا ابن السبيل، وطني هو القافلة وحياتي هي أقل الرحلات توقعاً. ولسوف تسمع في فمي العربية والتركية والقشتالية والبربرية والعبرية واللاتينية والعامية الإيطالية، لأن جميع اللغات وكل الصلوات ملك يدي. ولكنني لا أنتمي إلى أيّ منها. فأنا لله وللتراب، وإليهما راجع في يوم قريب". ومما يؤكد هذا البعد في رؤية الحسن للحياة والوجود وإيمانه بالتجدد، ما يفعله من التوجه بالخطاب إلى ابنه حين الحديث عن خلاصة تجاربه الحياتية الثرية. ونقْل خلاصة التجارب إلى الابن يدل على رفض التكتّم على هذه الحياة الغنية أو التفرّد بها والانغلاق عليها، وإنما هو يبسطها أمام (امتداده الآتي) المتمثّل بابنه حتى تحافظ على اتساعها وتواصلها: "وستبقى بعدي يا ولدي، وستحمل ذكراي وستقرأ كتبي". هكذا يستعيد أمين معلوف رؤية شخصية الحسن الوزان من منظور روائي إبداعي، ليؤكد على حضورها كفكرة منجزة لا تزال فاعلة ومؤثرة في الميراث الثقافي.