«تشيك» لفولفغانغ هيرندورف... حزن لا يخلو من فكاهة
رحل الروائي الألماني فولفغانغ هيرندورف في عام 2013 بعدما أضناه المرض وفتك بجسمه. هو الذي قال {لا يجب أن تجعل القراءة الإنسان وحيداً}، وكان الأدب العظيم بالنسبة إليه النص الجيد، حتى إن لم يصدر في كتاب. ولد في عام 1965 في مدينة هامبورغ. تعرَّف كثير من القراء إليه من خلال روايتة {تشيك} الصادرة عام 2010، القصيرة والعنيفة، وهي حققت نجاحاً لافتاً وبيع منها أكثر من مليون نسخة.
اللافت في الرواية أنها مضحكة وحزينة في آن، صاغها الكاتب ببراعة تصنع لدى القارئ خليطاً من مشاعر الخوف والتعاطف. تصدر الرواية قريباً عن {منشورات الجمل} في بيروت بترجمة حسين الموزاني إلى العربية. {الجريدة} تنشر قسماً منها.
اللافت في الرواية أنها مضحكة وحزينة في آن، صاغها الكاتب ببراعة تصنع لدى القارئ خليطاً من مشاعر الخوف والتعاطف. تصدر الرواية قريباً عن {منشورات الجمل} في بيروت بترجمة حسين الموزاني إلى العربية. {الجريدة} تنشر قسماً منها.
في البدء كانت رائحة الدمّ والقهوة. وكانت ماكينة القهوة تنتصب على الطاولة، وثمّة دم في حذائي. وإن شئت الصراحة فلم يكن الدمّ وحده. وعندما قال كبيرهم {أربعة عشر} تبوّلت في سروالي. وكنت أجلس على نحو مائل فوق مقعد بلا مسند، ولم أتحرك طوال الوقت، فأصابني الدوار. وحاولت أن أظهر، ومثلما تصورت، كيف كان {تشيك} سيظهر لو أن أحداً ما قال له {أربعة عشر}، ثمّ تبولت في سروالي من الخوف. إنّه البطل {مايك كلنغنبيرغ}. وعلى الرغم من ذلك، فإنني لا أعرف سبب الانفعال الآن. وكان واضحاً منذ البداية بأن الأمر سينتهي على هذه الشاكلة. وبالتأكيد أنّ تشيك لم يبل في سرواله. وأين هو تشيك أصلاً؟ فقد رأيته في الطريق السريع وهو يثب على ساق واحدة في اتجاه الأدغال. بيد أنني أتوقع بأنهم أمسكوا به أيضاً، فهو لن يتمكن من قطع مسافة طويلة على ساق واحدة. وبالطبع أنني لا أستطيع طرح أسئلة على الشرطة. فمن الأفضل منطقياً أن لا أبدأ بذلك، طالما إنهم لم يرونه، ولعلّهم لن يرونه. وبلا شكّ أنّهم لن يحصوا على أيّ شيء منّي أنا. ويمكنهم أن يمارسوا التعذيب معي، على الرغم من أنّ الشرطة الألمانية لا يحقّ لها أن تمارس التعذيب حسبما أظنّ، وهم لا يمارسون ذلك إلا في التلفزيون، وكذلك في تركيا. لكن ليس من المجدي إطلاقاً أن أجيب عن أسئلة تتعلق بالوالدين وأنا أجلس منقوعاً في البول في مركز شرطة الطرق السريعة!
وربّما سيكون التعذيب مريحاً تماماً، إذ أنني سأجد حينئذ سبباً لتوتريّ النفسي. قال تشيك إنّ من الأفضل أن أغلق فمي. وأصبح هذا هو موقفي أيضاً. لا سيما بعد أن بات كلّ شيء سيّان، بل إنّ كلّ شيء بات بالنسبة لي سيّان، كلّ شيء تقريباً. إذ أنّ {تاتيانا كوسيك} مثلاً ليست سيّان بالنسبة لي بطبيعة الحال. وعلى الرغم من أنني لم أفكر فيها حالياً وقتاً طويلاً إلى حدّ ما. ولكنني طالما بقيت جالساً هنا والطريق السريع يهدر في الخارج والشرطي الأكبر سنّاً يقف منذ خمس دقائق إلى جانب ماكينة القهوة، هناك في الطرف الأخير، ويعبأ الماء ثمّ يسكبه من جديد، ويضغطّ على الزرّ ويتفحّص الجهاز من الخلف، مع أنّ أيّ أبله يستطيع رؤية مقبس السلك الطويل لم يكن موصولاً بعلبة الكهرباء، فإنني بدأت أفكرّ في تاتيانا. وإذا ما توخيت الدقّة فأنا لن أكون في هذا المكان لولا تاتيانا، على الرغم من أنها لا علاقة لها بكلّ ما حدث. فهل ما أقوله هنا غير واضح؟ بلى، أنني أشعر بالأسف على ذلك، وسأحاول مرّة أخرى في ما بعد.حقل القمح وتاتيانا لم يرد ذكرها في القصّة كلّها، نعم، هذه الفتاة الأجمل في العالم سوف لا يرد لها ذكر هنا. وكنت أتخيّل دائماً، وطوال الرحلة، بأنها تستطيع رؤيتنا عندما كنا نتطلع من حقل القمح المرتفع وعندما وقفنا في مكبّ القمامة حاملين حزمة من الأنابيب المطاطية كالبلهاء... وكنت أتصوّر على الدوام بأنّ تاتيانا كانت تقف خلفنا فترى ما كنّا نراه وتشعر بالفرح كلمّا شعرنا بالفرح. بيد أنني الآن أصبحت مسروراً لأنني تصوّرت ذلك في خيالي، ليس إلّا. وسحب الشرطي منديلاً ورقياً أخضر من علبة المناديل وناولني إيّاه. فما الذي يمكن أن أفعله به؟ وهل أمسح أرضية القاعة؟ ثمّ أمسك أنفه بأصبعين ونظر إليّ. أجل! علي أنّ أنظف أنفي، فتمخطت، فابتسم بلطف. ويمكنني أن أنسى التعذيب ببساطة. ولكن أين أرمي المنديل؟ فتطلعت حولي باحثاً في الأرضية. وكانت المحطة كلّها مفروشة بالمشمّع الرمادي، مثلما فرشت ممرات قاعة تماريننا الرياضية. وكانت الرائحة تشبه تلك الرائحة، وهي رائحة البول والعرق والمشمّع. وكنت أرى {فولكوف} معلمّنا للرياضة ذا السبعين عاماً ببدلة التمارين وهو يخطو خفيفاً بجسمه المدرّب: هلمّوا بنا أيها الفتيان! هيّا، هيّا! وأسمع وقع خطاه التي تصدر صوتاً فوق الأرضية وأسمع الكركرة البعيدة القادمة من غرفة تغيير ثياب الفتيات ونظرة فولكوف حيث تقف الغرفة. وكنت أرى النوافذ العالية والمقاعد والحلقات المثبتة في السقف والتي لم يتمرن عليها أحد. وأرى {ناتالي} و{لينا} و{كمبرلاي} يدخلون القاعة من المدخل الجانبي. وأرى تاتيانا ببدلة تمارينها الخضراء. وألمح انعكاس صورتها غير واضحة المعالم على أرضية القاعة، وسروالها البرّاق الذي ترتديه الفتيات دائماً الآن، وقمصانها. ومؤخرّاً صار نصف الفتيات يتمرنن ببلوزات سميكة من الصوف، وثلاث منهن على الأقل كنّ يجلبن دائماً شهادة من الطبيب، إلى ثانوية هاغيسيوس، في برلين، الصفّ الثامن. قلت {إنني اعتقدتُ خمسة عشر؟} فهزّ الشرطي رأسه. {كلا، إنما أربعة عشر، أربعة عشر. ما الذي حدث للقهوة يا هورست؟} فقال هورست {القهوة معطلة}. وأردت أن أتحدث مع محامييّ. ولعلّ هذه هي العبارة التي عليّ أن أقولها الآن. وهي العبارة الصحيحة في الموقف الصحيح، مثلما يعرف الجميع ذلك عبر التلفزيون. لكن من السهل القول: إنني أريد التحدث إلى محامييّ. وقد ينفجرون من الضحك. والمشكلة هي أنني لا أفهم معنى هذه العبارة. فإذا ما قلت إنني أريد أن أتحدث مع محامييّ فيسألونني: {مع من تريد التحدث؟ مع محاميك؟} فكيف سأجيب حينئذ؟ فأنا لم أر محامياً طيلة حياتي، ولا أعلم أيضاً لماذا أنا بحاجة إليه، ولا أعرف فيما إذا كان محاميّ الدفاع هو المحامي نفسه، أو المدعي العام. وأظنّ أنه يشبه الحاكم، لكنه يقف إلى جانبي، ويفهم أكثر منّي في القوانين. لكنّ أيّ شخص من الحاضرين في هذه القاعة يفهم عملياً أكثر منّي في القوانين، وأيّ شرطيّ قبل كلّ شيء. وأستطيع بالطبع أن أسألهم عن ذلك. لكنني أراهن على أنني حالما أسأل الشرطيّ الأصغر سنّاً في ما إذا كنت بحاجة إلى ما يشبه المحامي، فإنه سيستدير إلى زميله ويهتف {يا هورست، يا هورستي العزيز! تعال إليّ! فبطلنا يريد أن يعرف فيما إذا كان سيحتاج إلى محام! فأنظر! إنه قد أغرق الأرضية بنزيفه وتبوّل في سرواله كبطل العالم ومع ذلك فهو يريد التحدث مع محاميه}! هه هه هه! فهم سينفجرون ضحكاً بالطبع. ثمّ إنني أجد نفسي في وضع سيئ على نحو كاف، وأنا لست بحاجة أن أجعل من نفسي مسخرةً. فما حدث قد حدث. ولن يقع أكثر من ذلك. ولا يستطيع حتّى المحامي أن يغير من واقع الأمر شيئاً. فليس هناك من ينكر ما قمنا به من عمل سيئ إلا إذا كان مريضاً عقلياً. فما الذي يمكن أن أقوله؟ فهل أقول بأنني كنت أسترخي عند حوض السباحة في منزلنا طوال الأسبوع، واسألوا المنظفّة عن ذلك؟ وإنّ أنصاف الخنازير هطلت علينا من السماء كالمطر؟ والآن لا أستطيع أن أفعل شيئاً في الواقع، إذ لم تبق أيّ خيارات أخرى مفتوحة أمامي. أصغر الشرطيين والذي بدا لطيفاً للغاية في الحقيقة، هزّ رأسه وأخذ يكرر: {خمسة عشر هراء! أربعة عشر عاماً. وفي الرابعة عشرة تقع تحت طائلة العقوبة القانونية.} فربّما عليّ أن أظهر الآن شعوراً بالذنب وندماً وما إلى ذلك، لكنني أقول بصراحة بأنني لا أشعر بشيء على الإطلاق. وقد شعرت فقط بدوار لا يصدّق. فحككت أسفل بطّة الساق، وفي الموضع الذي كان بطّة ساق سابقاً، ولم تعد موجودة الآن، لم يلصق في يدي سوى شريط بنفسجي من السائل اللزج. وقلت إنّ هذا ليس دمي عندما سألوني قبل قليل. فهناك المزيد من النخامة في الشارع يمكن أن تثير الاهتمام، وفكّرت حقّاً في أنّه ليس دمي. وسألت نفسي إذا لم يكن هذا دمي، فأين ذهبت إذن بطّة ساقي؟ وسحبت طرف سروالي ونظرت إلى الأسفل. فبقيت أمامي ثانيةٌ بالضبط لكي أعرب عن دهشتي. وفكّرت في أنني لو رأيت ذلك في فيلم فسأصاب بالغثيان بكلّ تأكيد، وقد شعرت الآن حقّاً بالغثيان في مركز شرطة الطرق السريعة، الأمر الذي جعلني أشعر أيضاً بالطمأنينة نوعاً ما. وكنت أرى انعكاس صورتي لبرهة وجيزة فوق المشمّع وهي تتقدم نحوي ثمّ سقطت غائباً عن الوعي.