في مثل هذا اليوم!
حتماً يجب أن نبقى نتذكر اليوم الذي خسرنا فيه ما تبقى من فلسطين وهضبة الجولان وسيناء حتى قناة السويس، فالعرب، أو بعضهم، ذهبوا إلى الحرب التي استدرجتهم إسرائيل إليها استدراجاً، وأوضاعهم "لا تسر الصديق ولا تغيظ العدا"، فالجيش المصري كان قد عاد توّاً من اليمن مهزوماً ومدمراً، بينما قياداته العسكرية تغرق في الفساد والترهل والصراعات الجانبية، والجيش السوري كانت قد أنهكته الانقلابات العسكرية وخيرة ضباطه كانوا في سجون وزنازين "الرفاق"، والأردن كان يواجه ضغطاً من الشمال، ومن مصر الناصرية، وضغط "الشارع" الذي كانت قد أججت مشاعره ظاهرة الكفاح المسلح وانطلاق الثورة الفلسطينية.كنت يومها في دمشق، وكانت الإذاعة السورية، التي كانت وقتها مستنفرة على مدى الساعة، تبث أهزوجة حماسية تقول:
ميراج طيارك هربمهزوم من نسر العربوالميغ علت واعتلت في الجو تتحدى القدركان هذا والطائرات الإسرائيلية تملأ سماء دمشق ضجيجاً، وكنا نحسبها طائرات الـ"ميغ" التي تتغنى بها الإذاعة السورية، حيث كان مدير التلفزيون السوري، رحمه الله، قد وجه دعوة إلى أبناء الأمة العربية، وهو يضع رشاش "الكلاشنكوف" أمامه على الطاولة المحملة بشعارات البعث، لقضاء فصل الصيف على شواطئ نهاريا في فلسطين.كانت دمشق تغرق في فوضى عارمة، فصخب الإذاعات يختلط بهدير الطائرات وأزيز الرصاص وأبواق السيارات التي كانت تركض بدون أي اتجاه، وهكذا إلى أن بدأت تحل لحظات المساء حتى أدركنا الحقيقة المُرة التي لا تزال تملأ حلوق مَن بقي حياً منا حتى الآن!إنها الهزيمة التي مزّقت أكبادنا وبددت حلماً جميلاً كنا قد عشناه في لحظات الوهم الذي أغرقتنا به البلاغات الكاذبة والأهازيج الصاخبة، لقد احتل الإسرائيليون القدس وباقي ما تبقى من فلسطين، ووصلت الجيوش الإسرائيلية إلى قناة السويس، و"سقطت" هضبة الجولان التي أسقطها بلاغ عسكري أصدره وزير الدفاع حافظ الأسد قبل أربع وعشرين ساعة من سقوطها. كانت الضفة الغربية تشكل النصف الآخر للمملكة الأردنية الهاشمية، وكان رئيس الوزراء الأردني وصفي التل قد عارض انخراط الأردن في تلك الحرب التي كان يعرف سلفاً أن العرب سيخسرونها، لأن إسرائيل قد حددت زمانها واستدرجتهم إليها، ولأنهم، أي العرب، كانوا مفرقين: "أيدي سبأ"، وكانوا ممزقين يتبادلون الاتهامات، وتفتك بهم الدسائس، وكانت عواصمهم الثورية تغرق في لجج الفساد و"الزعرنات" والمزايدات والمؤامرات والتآمر.كان وصفي التل قد قال في اجتماع لكبار المسؤولين الأردنيين، قبل يوم واحد من اندلاع تلك الحرب، إن الأردن إنْ شارك في الحرب فسيخسر الضفة الغربية، وكان جواب الملك حسين، رحم الله الاثنين، ولكنه إنْ لم يشارك فسيخسر الضفة الغربية والضفة الشرقية أيضاً، وسيحمله العرب مسؤولية الهزيمة، كما أن الشارع الأردني، الذي أججت مشاعره أهازيج الإذاعات وبلاغات الثورة الفلسطينية الناشئة، لن يسكت، وسينضم إلى الذين سيحمّلون هذا البلد هزيمةً نعرف أنها قادمة لا محالة، وأنها ستحل بنا منذ الآن بالتأكيد.