التنوع الكبير تعبير قام المؤرخون الاقتصاديون بصياغته من أجل توضيح التسارع المفاجئ في النمو والتقنية في أوروبا منذ القرن السادس عشر فصاعداً، بينما ظلت الحضارات الاخرى، كما في الصين والهند واليابان وايران، في حالة ما قبل الحداثة. وقد اكتسب هذا التعبير في الآونة الأخيرة معنى مختلفاً تماماً يتعلق بقدر أكبر بالاقتصاد العالمي والأوضاع المالية في الوقت الراهن.

Ad

وفي وقت سابق من السنة الماضية نشر صندوق النقد الدولي في مجلة "وورلد إيكونوميك آوتلوك" مقالة تحلل سياسات التنوع الكبير حول العالم منذ اندلاع أزمة سنة 2008، وقد أشارت تلك المقالة إلى أن "السياسات النقدية التوفيقية بصورة استثنائية" التي ترمي إلى تحفيز التعافي قوبلت "بسياسات مالية معاكسة غير عادية" تفضي إلى انكماش اقتصادي في كل اقتصاد متقدم في منطقة اليورو أولاً، ثم في اليابان والولايات المتحدة في ما بعد.

وفي الآونة الأخيرة استحوذت على الأسواق المالية صورة أخرى للتنوع الكبير، إذ عمدت "إليانز غلوبال إنفسترز" وهي الشركة الأم لـ "بيمكو" التي تعتبر أكبر صندوق سندات في العالم، إلى وصف ذلك على أنه "إبحار في التنوع الكبير" ومع تفكير مجلس الاحتياط الفدرالي في رفع معدلات الفائدة وإطلاق البنك المركزي الأوروبي حزمة تحفيز جديدة، واجه المستثمرون تأثيرات متنوعة من جانب السياسة النقدية، ثم تنوعت اهتمامات المستثمرين على جانبي الأطلسي.

والسؤال هو: ما الذي يدفع الشركات والمستثمرين إلى الاهتمام بهذه التعابير المعجمية؟ ويرجع السبب إلى أنه بحلول الوقت الذي أصبح الاتجاه الاقتصادي فيه مجرد كليشيه تحليل تكون الأمور قد انتهت، وفي بعض الأحيان يكون ثمة اتجاه معاكس قد بدأ.

الاتجاهات المهمة اليوم

التنوع الكبير بين السياسة النقدية والمالية وبين الولايات المتحدة والدول الأخرى، يؤكد هذه المسألة، والاتجاهات المهمة اليوم، وخاصة بعد تغيرات السياسة في شهر أكتوبر في اليابان وأوروبا، لا تمثل تنوعاً بل نقطة التقاء.

وهذا التنوع الكبير في السياسات الاقتصادية الواسعة بين الولايات المتحدة وبقية دول العالم سيحرك الأسواق المالية ويهيمن على الظروف التجارية في السنة المقبلة، ولكن ذلك لم ينعكس حتى الآن على أسعار الأصول أو اتجاهات السوق. وتستمر شريحة المستثمرين في التفكير بعمق في الفجوة الصغيرة التي قد تنشأ أو لا تنشأ بين السياسات الأميركية والأوروبية في وقت ما من السنة المقبلة، عندما يبدأ مجلس الاحتياط الفدرالي في رفع معدلات الفائدة بصورة متأنية.

وعلى الرغم من ذلك فإن الجانب الأكثر أهمية من الفارق المحتمل في السنة المقبلة، والذي قد يصل إلى ربع أو نصف نقطة مئوية بين معدلات الفائدة في الأجل القصير على جانبي الأطلسي، هو التقاء السياسة الاقتصادية والأهداف المنشودة لأول مرة منذ الأزمة الاقتصادية التي اندلعت في سنة 2008. وخلال الشهرين الماضيين تحركت اليابان وأوروبا والصين نحو تحفيز نقدي أشد وعكست التزاماتها السابقة إزاء التقشف المالي.

صحيح أن هذه التحولات السياسية العالمية تصادفت مع نهاية برنامج مجلس الاحتياط الفدرالي المعروف باسم التيسير الكمي غير أن هذا التوقيت لا يعني بالضرورة أن الولايات المتحدة تبتعد عن أوروبا وآسيا، وما يحدث في حقيقة الأمر هو أن أوروبا وآسيا قررتا أخيراً، وبشيء من التردد، اتباع خارطة الطريق التي وضعتها واشنطن للخروج من الركود الكبير.

من جهة أخرى وفي منطقة اليورو وبريطانيا والصين تم تحجيم الصقور من حكام المصارف المركزية كما أعيد رسم السياسة المالية بحيث تشتمل على تحفيز تام، وقد تحقق ذلك في الآونة الأخيرة من قبل البنك المركزي الأوروبي الذي قبل في وقت متأخر مبدأ التيسير الكمي على الطريقة الأميركية، وفي اليابان، حيث كانت آلات طباعة النقود تعمل بكل طاقتها، لتنشط بقوة أكبر وأسرع.

ثم تم التخلي عن تعزيز خطط التوفير في الميزانيات في اليابان ومنطقة اليورو، وبشكل سري في ايطاليا وفرنسا وبريطانيا، وفي اليابان حيث دعا رئيس الوزراء شينزو آبي إلى انتخابات عامة من أجل تأكيد انتصاره السياسي على خطط عقلية التقشف في أوساط البيروقراطيين في وزارة المالية الذين كانوا يصرون على تحقيق زيادة أخرى في الضرائب في السنة المقبلة، وذلك على الرغم من أنهم تسببوا في حدوث ركود اقتصادي من خلال الخطأ ذاته في تلك السياسة.

اتباع السياسة الأميركية

ويتمثل الجانب المهم في أن كل اقتصاد متقدم يتبع في الوقت الراهن وبصورة واسعة سياسة الولايات المتحدة الاقتصادية والتي تتمثل في تطبيق الحد الأقصى من التحفيز النقدي الذي يواكبه حياد مالي وتعليق قوانين الميزانية ذات الإنتاجية المعاكسة. وعلى افتراض استمرار أوروبا واليابان في اتباع السياسات التوسعية على الطريقة الأميركية فإن ذلك سيفضي في نهاية المطاف إلى نتائج مماثلة عبر تحسن تدريجي في الوظائف والأوضاع المالية مدفوعاً بوتيرة نمو اقتصادي أسرع. وقد تأكد هذا الاتجاه في الولايات المتحدة من جديد في الأسبوع الماضي من خلال ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث من هذه السنة إلى 3.9 في المئة.

وإضافة إلى التحسن المحتمل في الأوضاع الاقتصادية في أوروبا وآسيا، فإن التقاء السياسات الاقتصادية العالمية حول النموذج النقدي والمالي في الولايات المتحدة قد يفضي إلى مضاعفات مالية عديدة غير متوقعة.

وعلى سبيل المثال، فإن اليورو والين، وبدلاً من الاستمرار في الهبوط في مقابل الدولار كما يتوقع معظم الخبراء في الوقت الراهن، يمكن أن يستقرا إذا بدأ الاقتصاد في أوروبا واليابان في التحسن، وقد يحقق اليورو والين بحلول السنة المقبلة درجة من القوة لأن بنك اليابان والبنك المركزي الأوروبي سيخفضان من طباعة النقود بقدر أقل من المتوقع الآن إذا عكست الحكومات مسار التقشف المدمر من الوجهة المالية. وبالمثل فإن أسواق الأسهم في شتى أنحاء العالم ستبدأ في تحقيق أداء أفضل من وول ستريت إذا اقتنع المستثمرون بأن أوروبا واليابان والصين التزمت مثل واشنطن بسياسة التوسع الاقتصادي. وربما يمكن رصد المؤشرات الأولى على هذا التحول في اليابان بعد الإجراءات التي أعلنها رئيس الوزراء آبي ضد التضخم في أواخر شهر أكتوبر، وفي الصين بعد خطوة التيسير النقدي المفاجئة في الأسبوع الماضي. وإذا كان بوسع رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي إقناع المستثمرين بأن لديه الدعم السياسي اللازم من أجل القيام بتحفيز نقدي نشيط فإن أداء الأسهم الأوروبية سيتحسن بصورة كبيرة.

أسواق السندات

وفي أسواق السندات – وعلى العكس – سيكون المستثمر في الولايات المتحدة المستفيد الرئيسي من سياسة التلاقي العالمية، كما أن التيسير الكمي الأكثر حدة في اليابان وأوروبا قد يفضي إلى زيادة الطلب على السندات في الولايات المتحدة كما في تلك البلدان، ونتيجة لذلك، ستظل أسعار السندات الأميركية أعلى من المعتاد بدلاً من أن تهبط نتيجة النمو الاقتصادي الأكثر قوة.

ولعل ما هو أفضل من ذلك أن مجلس الاحتياط الفدرالي سيتعرض لضغط اقل من أجل تشديد السياسة النقدية في وضع توسع اقتصادي، لأن التيسير الكمي في اليابان وأوروبا سيفضي إلى إبقاء عوائد السندات الأميركية متدنية.