هذا العنف الذي يجتاح المجتمعات العربية والإسلامية، ويدفع بعض شبابنا المسلم الغر نحو مهاوي الهلاك تعطشاً للجنّة ولقاء حورها، عبر دماء آلاف الأبرياء، وهذه الفظائع المروعة: نحر البشر وحرقهم، وقطع رؤوسهم والتباهي بها، وتشريد آلاف البشر من الأقليات الدينية والمذهبية من ديارهم، واسترقاق النساء وبيعهن واغتصابهن، وبث الرعب في المجتمعات، وتفجير الذات في الآمنين في المجمعات والأسواق والمساجد ومحطات الركاب والقطارات، وتدمير الآثار التاريخية والمنازلة المسلحة للدولة الوطنية، واختطاف البشر من أجل المال، كل هذه المظاهر والتجليات المأساوية، أساسها "ثقافة الكراهية"

Ad

فما هذه الثقافة؟

هي ثقافة تخاطب الغرائز والانتماءات الأولية السلبية في الإنسان: التعصب القبلي، والتعصب الطائفي، والتعصب الديني، والتعصب القومي، والتعصب الأيديولوجي، وتغذي مشاعر الكراهية في الإنسان ضد الآخر، وتشحن وجدانه وعقله اعتقادا بأن الآخرين أقل منه أو أقل من فئته التي ينتمي إليها، وأن أفكارهم وأديانهم ومذاهبهم غير جديرة بالاحترام، وأن فكره أو مذهبه أو دينه أو أيديولوجيته أو توجهه يجب أن تسود وتفرض فرضاً- طوعاً أو كرهاً- كما هو حاصل اليوم على يد هذه التنظيمات والجماعات المتطرفة عندنا وعند غيرنا، فالتعصب الزائد والمغالى فيه غير التعصب الإيجابي المحمود للدين والوطن والجماعة والقبيلة والدفاع عنهم، بمعنى أن يحب الإنسان وطنه ودينه وطائفته وقبيلته ويدافع عنهم بالحق ويخلص لهم، بل ذلك قد يكون من الواجبات الدينية والوطنية، لكنه لا يعتدي على الآخرين ولا يهضم حقوقهم على طريقة الحمية الجاهلية "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً".

كيف تنشأ "ثقافة الكراهية"؟

تنشأ ثقافة الكراهية غالباً، نتيجة لضعف "التحصين الديني" لبعض شبابنا، وذلك للأسباب الآتية:

١- ضعف دور البيت، باعتباره الحاضن الأول للطفل، في تحصينه من أمراض التعصب والكراهية، وخصوصا في المرحلة العمرية الأولى، الطفل لا يولد محباً أو كارهاً للآخرين، لكنه يمتص ويتشرب، تلقائياً، الثقافة المحيطة، فإذا كانت "تسامحية" تتقبل الآخر فإن الطفل ينشأ محباً متسامحاً غالباً، وإن كانت "تعصبية" فإن الطفل "يتبرمج" عقلياً ووجدانياً بثقافة الكراهية... كما أن لتسامح الأبوين مع الخدم والجيران، الدور الأهم في ترسيخ مشاعر التسامح في نفسية الطفل.

٢- ضعف دور المدرسة "المنظومة التعليمية والإدارة والمعلم" في غرس المحبة والتسامح في نفوس طلابها وعقولهم.

فكلما كانت "المنظومة التعليمية" تقبل تعددية الرأي والفكر وتتسامح مع الرأي الآخر، وتنمي "العقلية المنفتحة" على ثقافات ومعتقدات الآخرين، كانت أقرب إلى ترسيخ ثقافة التسامح في الطلاب، وكلما كان الخطاب التعليمي قائماً على "الرأي الأحادي" و"التلقيني"، منشغلاً بخلافات الماضي- الطائفية والمذهبية والدينية- كان أقرب إلى تكوين "عقلية منغلقة "يسهل انزلاقها إلى فكر الكراهية والعنف والتطرف.

٣- ضعف الخطاب الديني في انفتاحه على الثقافات الإنسانية واحتضانه للإنسان لأنه إنسان مكرم من عند خالقه "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ".

٤- ضعف الخطاب التشريعي في تمييزه بين الناس بحسب معتقداتهم أو أصولهم أو مذاهبهم.

٥- ضعف الخطاب السياسي بقيامه على أساس أيديولوجي أو عرقي أو قبلي أو طائفي.

كيف نرسخ "ثقافة التسامح"؟

إن البديل لثقافة الكراهية هو ثقافة التسامح، ومن أجل العمل على ترسيخها ينبغي للدولة أن تضع استراتيجية وطنية لثقافة التسامح، تتعاون فيها كل مؤسسات المجتمع والدولة على نشرها وتعميقها في البيئة المجتمعية، ومن أبرز عناصر هذه الاستراتيجية:

١- دعم الإعلام الإيجابي المعزز لثقافة التسامح.

٢- حظر الترويج لأفكار الكراهية ضد الآخر أو الإساءة إلى الأديان والمذاهب والمعتقدات الأخرى.

٣- ضبط "المنابر" الدينية بما يجنبها الانزلاق إلى التحريض على كراهية الآخر والدعاء عليه ولعنه، فالمسجد بيت الله تعالى مصدر هداية ونور وتسامح، وسمو أخلاقي لا يجوز أن يتحول إلى ساحة للخلافات السياسية أو الأيديولوجية أو المذهبية، يقول الله تعالى "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً".

٤- تنقيح التعليم الديني خاصة والتعليم العام عامة من عناصر كراهية الآخر وبغضه.

٥- سن تشريعات بتجريم التحريض على الكراهية ومساءلة دعاتها.

٦- حياد الدولة "الديني والمذهبي" عبر تفعيل مفهوم "المواطنة" طريقاً لغرس قيم المحبة والتسامح، إذ لا جدوى من الخطب الدينية والإعلامية عن التسامح، ولا حتى النص في الدساتير إذا كانت تشريعات الدولة تمايز بين المواطنين بحسب معتقدهم الديني أو المذهبي، أو كانت معاملة الدولة تقوم على نوع من التمايز بين المواطنين، أو كانت حقائق الواقع المجتمعي وعلاقات الأفراد، بعضهم ببعض، بعيدة عن قيم التسامح.

٧- تفعيل توصيات المؤتمرات المعنية بالحوار بين الأديان والمذاهب والثقافات في إجراءات عملية وسياسات.

* كاتب قطري