مارين لوبان على ضفاف النيل
تفرض لعبة المصالح الوطنية والبراغماتية السياسية إعادة النظر إلى كل المواقف التي نراها حولها، ما يستدعي بالتالي القبول بالجلوس مع شخص ربما نختلف معه سياسياً، لكن يمكن أن نصل معه إلى طريق وسط يحقق المصالح الوطنية، حتى لو كان ذلك على المدى البعيد، وليس بعيداً عن هذا ما يمكن أن نقوله عن أهمية احترام الآخر وقبوله والاستماع إليه، ومحاولة شرح المواقف الصحيحة، ومحاولة رأب الصدع، والوصول إلى مشتركات تسهل تحقيق مصالح سياسية.ومناسبة هذا الكلام ما أثير أخيراً حول زيارة رئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي مارين لوبان للقاهرة، فرغم مواقف لوبان المتشددة عموماً، فإنه يمكن النظر بإيجابية إلى زيارتها الأخيرة للقاهرة، والتي التقت فيها عدداً من المسؤولين والشخصيات العامة، من بينهم شيخ الأزهر د. أحمد الطيب، والبابا تواضروس.
وأود التركيز هنا على لقائها بشيخ الأزهر، الذي تمكن خلاله من توضيح وجهة نظر العالم الإسلامي للوبان، والتفريق بين ما هو إسلامي وما هو إرهابي.لقاء شيخ الأزهر بلوبان تم بناء على طلبها، ما يؤكد اهتمامها بالاستماع إلى رأي الدين الوسطي، وفي اللقاء أكد الطيب أنه "لا يوجد إسلام سياسي ولا إسلام متطرف، لكن هناك مسلمين معتدلين يفهمون صحيح الدين، وهم كثر، وآخرون متطرفون وهم قلة أساءت فهم الدين"، محملاً الغرب مسؤولية تفشي تيارات العنف، لأنه احتضن الإرهابيين وأمّن لهم بيئة خصبة لنشر التطرف والعنف في الدول الإسلامية، وهو ما وافقته عليه لوبان التي طلبت مساعدة الأزهر في فرنسا، للتحري عن بئر الإرهاب ثم محاربته، وهو ما رد عليه شيخ الأزهر بأنه تقدم سابقاً بعرض مشروع لتدريب الشيوخ كيف يحاربون أسباب التطرف، لكنه رفض من فرنسا بسبب طبيعتها العلمانية. ما يمكن قراءته من الموقف السابق هو أهمية التعامل ببراغماتية مع الطرف الآخر، للوصول إلى هدف مشترك يخدم كلا الطرفين، فإذا كان هناك عدو مشترك لدينا وهو – الإرهاب – سواء المنتشر داخل العالم العربي أو في أوروبا، بصوره المختلفة، فلابد من التصدي له باستدعاء الإسلام الحقيقي، وهو ما حرصت لوبان على تأكيده في لقائها مع شيخ الأزهر، الذي كان يدرك أن تجفيف منابع الإرهاب في الغرب لن يتم إلا بإظهار الصورة الحقيقية للإسلام، وتوضيح هذه الصورة للغرب، خاصة إذا عرفنا أن عدداً لا بأس به من مقاتلي "داعش" من مسلمي الغرب، الذين لا يرون في الإسلام إلا هذه الصورة المرعبة، كما كان شيخ الأزهر يدرك أن الأزهر وحده لا يمكن أن يحارب الإرهاب، ويجب أن تتحد قوى العالم لتوعية البسطاء في كل مكان، وهو ما حرص على شرحه للوبان.وإذا كان البعض يرى أن هذه الزيارة تأتي في إطار حملة رئاسية مبكرة لمارين لوبان، فإن الواقع يكشف أنها في زيارتها لمصر كانت منفتحة على الواجهة الأولى للإسلام في العالم، مبدية تراجعها عن الصورة التي طالما رسمها وسوّق لها حزب الجبهة الوطنية على مدار عقود، بتصريحات مستفزة ورؤية غير نافذة للإسلام وأتباعه.لكننا في الوقت نفسه لا يمكن أن نلوم الغرب وحده على نظرته للإسلام، فصعود مصطلحات مثل الإسلاموفوبيا والتطرف لم يكن الغرب وحده سبباً فيها، بل صعود الإسلام الراديكالي، سواء في أحداث 11 سبتمبر في أميركا، أو أحداث لندن وإسبانيا، أو ما تم أخيراً في فرنسا ذاتها بعد الهجوم الإرهابي على مقر المجلة الفرنسية الساخرة "شارلي إيبدو" في باريس، بداية 2015، والتي أنتجت هجمة مضادة للإسلام في فرنسا وخارجها، لذا لا يمكن إلا أن نستغل مثل هذه الزيارات لتغيير هذه الصورة عن الإسلام، ولـ"مصلحة المسلمين العليا"، كما قال شيخ الأزهر.سياسياً، يمكن قراءة تصريحات مارين لوبان بعد زيارتها لمصر، والتي تكشف تفهمها للموقف المصري، ودعمها لها في حربها ضد الإرهاب، والتي إن كشفت عن شيء فإنما تكشف عن أنه حتى لو اختلفنا سياسياً مع آخرين، فربما يجب علينا أحياناً أن ننظر ببراغماتية، وأن نعلي المصلحة السياسية التي هي مصلحة الوطن، وفي هذه الحالة يمكننا أن نقرأ لوبان بطريقة أخرى.