مالك طوق في «دفا» وابنه أنطوان في «قبيلِه... وما حدا» شاعران يختصران تاريخ الشعر العامّي في لبنان
يشكّل الشاعران مالك طوق وابنه أنطوان مالك طوق ثنائيّاً فريداً في تاريخ الشعر العامّيّ اللبناني، ولكلّ منهما مشهده الخاصّ بكلّ ما للكلمة من معنى. وأمس، أصدر الشاعر الابن لأبيه ديوان «دفا» بعد أربع عشرة سنة من غيابه وهو يضمّ مجموعة من القصائد لم يسمح الموت لصاحبها بطبعها قبل الرحيل، كما أصدر ديواناً له بعنوان «قبيلِه... وما حدا». وتكمن أهمّيّة الديوانين في أنّهما يرسمان مرحلتين فاصلتين في تاريخ الشعر العامّي اللبناني الذي لم يحظَ، حتى يومنا بمن يكتبه على معرفة وموضوعيّة وإلمام.
عندما أصدر الشاعر مالك طوق ديوانه الأوّل «عناقيد»، سنة 1952، زار حديقة القصيدة العامّية عطر غريب وجديد، يبشّر بالانتقال من مناخ إلى آخر على مستويات عدّة للنّصّ: بنيويّة، وجماليّة، ولغويّة... وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ زمن إطلالة طوق كان زمن الزّجل بامتياز، وليس سوى بضعة شعراء انتبهوا إلى أنّ الزجل لا يتّسع لموهبتهم، ولا يلبّي خاطرهم، وإلى أنّ قصيدة جديدة تنتظر من يدلّها برأس قلمه على الحياة. ومن هؤلاء الشعراء: عاصي الرحباني، وعبدالله غانم، وأسعد سابا، وميشال طراد... ويأتي مالك طوق واسطة عقدهم. وهكذا صار هؤلاء المجازفون الجسر الذهبيّ الذي نقل القصيدة العامّية من ضفّة الزجل إلى ضفّة الشعر. في ديوانه الأخير «دفا»، يقول مالك طوق لمرّة أخيرة: «أنا لست زجّالاً». وهذا الكلام لا يتّسع للشكّ، رغم أنّ الزجل ليس تهمة، إلاّ أنه دَفّ، في حين أنّ الشعر «دفا». أمّا السؤال: لماذا لا يعتبر طوق زجّالاً في جديده وفي كلّ الدواوين التي سبقته؟ فلأنّ طوق شاعر سخيّ، لا يرضى بأن يضيّف القليل من المعنى لكثير من الكلمات، ولأنّه لا يكتب لأجل التصفيق في آخر المقطع الشعريّ، ذلك التصفيق الذي يجد حياته على المنبر وموته في الكتاب، والذي يربحه الزجّال ويخسر نفسه شعريّاً. قصيدة مالك، في «دفا»، ترتكز على الاقتصاد القاموسي، والهدوء الداخلي العميق، والكلمات فيها تمشي على رؤوس الأصابع، خشية أن توقظ إلهة الشعر النائمة: «مرّات بيدُور القلب... بيدور / بيدور عا حالو / لا عارف نْ كَنّو العمر ناطور / يمّا حرامي... وقاعد قبالو». والصورة الشعريّة هي لمالك وحده ولم تمرّ في خاطر عين أيّ أحد آخر. صورة تفاجئ كالعذراء تمدّ يدها لشيخ لينهض من سريره، وكملاك يلعب مع طفل وحيد بالطابة: «خِديني بعيد... حطّيني بـ غابِه / غريبِه... طالعَه من قلب قصَّه / خلصت قبل ما توصل عا نِصّا / لأنّا انكتبت بـ إيد الغرابِه»... وكذلك، يبدو قاموس طوق خاصّاً جدّاً. ثمّة كلمات تراه مارّاً في محبرته، فتحطّ على كتفيه ورؤوس أصابعه. كلمات، لا أحد يستطيع ملأها مثله، ليلعب بها السيف والترس في ساحة الشعر: «لمِّن عا هاك البيت كنتي تمرقي / متل نهر نبيد بيدفِّق غَزَلْ / وتطْفي الدني عالسَّكِت حدِّي... وتغْرقي / كانت عا جِلْدي شرح خوابي العَسَلْ / وانْتي؟! متل ما يكون منقار الحجل / ماشي عا جلْدي... تعَرّقيني... وتعْرقي». لم يقبل مالك طوق أن يكون زجّالاً، لأنّ باستطاعته أن يملأ المنبر وحده، بلا خسّة وثلاثة شعراء إلى جانبه. وهو المعروف بأنه لا يعرف الانحناء. انحنى مرّة واحدة ليكون الجسر الناقل القصيدة من ضجيجها وفراغها إلى هدوئها وامتلائها، بعدما أخذ منها دفّ «الهوبَرَة»، وشكَّ في صدرها ناي القصيدة.بين الشاعر الأب والشاعر الإبن ولمعرفة الفوارق الشعريّة بين الشاعرين: مالك الأب، وأنطوان الابن، لا بدّ من استعارة قول المتنبّي: «إنّ في الخمر سرّاً ليس في العنبِ». فالشاعر الابن لم تنتقل إليه الموهبة إرثاً، إذ لا توريث في الإبداع. وعليه، فإنّه تمكّن من بناء مملكة له هي بمثابة مدرسة شعريّة جديدة تمثّل النُّضج الذي وصلت إليه القصيدة العامّية اللبنانية. وإذا كان لا بدّ من مقارنة مختصرة وعابرة بين قصيدته وقصيدة أبيه، فلنا أن نقول: إن أنطوان رأى سيف القصيدة في يد والده بحدّ واحد فمنحه الحدّ الثاني، وأتى بغربال أضيق عيوناً وأكثر نظراً، وباب القصيدة الذي كان بدرفتين، نزع منه الدرفة الأكبر، وترك الدرفة الصغرى لأنّه يعتقد بأنّ الدخول إلى سماء القصيدة هو أيضاً يجب أن يكون من الباب الضيّق. والعاصفة التي حاكها أبوه ملأها هو أجنحة، والسماء التي هندسها أبوه ملأها هو آلهة. مالك حمل على كتفيه السطح، أمّا أنطوان فأتى حاملاً القرميد، وبمعنى آخر: إنّ أنطوان أوصل القصيدة العامّية إلى المكان الذي حلم مالك بإيصالها إليه.«قبيلِه... وما حدا». جديد الشاعر أنطوان مالك طوق الشعري «قبيلِه... وما حدا» خيمة نساء: امرأة آتية بمعيّة ظلالها. وثانية تعدو فيقع ظلٌّ لها خارج الوقت. وثالثة تهمّ بالخروج من القلب آخذةً معها بابَه، فيمنعها النسيان من أخذه. ورابعة تقول للشاعر: «إنّي آتية غداً». فيجيب: «غداً، لا مكان لك، إذا كان بإمكانك أن تأتي البارحة»... نساء «قبيله... وما حدا» سوف تعيش قصائدهنّ أكثر منهنّ بكثير، وليس جديداً أن يهرب الملوك والنساء إلى القصيدة لينجوا من النسيان. في جديده سبق أنطوان نفسه. كنت أظنّ أنّ دائرته الشعريّة قد اكتملت، إلاّ أنه وجد في ذاته جبلاً أكثر ارتفاعاً من الجبال التي تسلّقها من قبل، فقفز عن كتف قلمه الشاهق من أعمق مكان فيه إلى أعمق مكان في القصيدة.القصيدة في «قبيله... وما حدا» قصيرة، فيها بداية ونهاية، لكن لا شيء بينهما. فكأن الشاعر يرى الكلام بين البداية والنهاية حشواً يمصّ دم القصيدة: «محَّيتِك... ما عدتي بـ فكْري / وكلّ اللي منِّك بتذكّرْ / حطّيتي إيدِك عا صدري / شلتي إيدِك... ضلّ الخنجرْ». والصورة الشعريّة خدّاعة. تبدو قريبة كقمر على صدر الماء، أو كالماء الذي لا يظهر على عمق، إلاّ أننا حين نقترب نرى القليل منه والكثير من الغرق: سامع صوت / سامع صوت مخنوق... دعسه ميّتِه / هاي دعستِك... صعبتْ عليِّي أعرفا / عالسّكت جايِه لابسِه صوت الحفا / هاي دعستِك... عم تمرقي عا نَعِسْتي / بدِّك تفوتي عالغفا». وعلى المستوى القاموسي، إنّ الكلمات مختارة بعينَي صائغ عتيق وتأخذ بأيدي بعضها البعض في الجملة كصفّ «الدبِّيكة» في الساحة، والقافية ترقص ملوِّحة بمنديل النغم في أوّل هذا الصفّ: «شايف أنا / بتتطلّعي فيِّي بحسّ تراب / عم ينتلو دَيِّي / وجُوّا عينيكي غراب حَدّ غراب / عم يضحكو عليّي / وسامع أنا / دعسة حدا سكَّرْ وراه الباب / وعارف أنا / بَيْناتنا شرقت شمس... الغياب». وللقافية نفسها أن تحضر قدر ما تشاء في القصيدة دون أن تعاد. فإذا حضرت للمرّة الثانية يكون المكان مخصَّصاً لها إذ لا كلمة أخرى تستطيع أن تحلّ محلّها: «لَ وين فكْرِك رايحَه؟ / عالأرض؟ شو بدِّك فيا؟ / ما دامك وإنتي عْلَيا / ما في إلك دعسِه... / لَ وين فكْرِك رايحَه؟ / باقي الفَلا / كلّو سوا / وواسع بساطو مليح / وإنتي فراشِه جْوانحا / لا بْيَعرفو يقْرو الهوا / ولا يكتبو عالرِّيح»... ومن ليس بغريب عن أورشليم الشعر العامّي اللبناني يعرف أن الشاعر أنطوان مالك طوق هو مهندس قصيدته الأوّل: فالشبّاك لا يأخذ من القصيدة محلّ الباب، والقرميد ذو نشاط فيعلو إلى مكانه ولا يبقى جالساً على الدّرج. ما يعني أنّ بنية القصيدة عند أنطوان تجود بما عندها من جمال على النصّ, في حين أنّ شعراء العامّية لم يعيروا بنية القصيدة اهتماماً ولم يؤمنوا مثل أنطوان بأنّ شكل الجرّة، أيضاً، يحرِّض على الشراب مثل الخمر التي فيها... الشاعر مالك طوق أخرج القصيدة من مغارة الزّجل وأوقفها على شرفة الشعر، ولكي تصل إلى كمالها أهدى إليها ابنه الشاعر أنطوان مالك طوق.