زرت تونس عدة مرات قبل سقوط "بن علي" وبعده، بل كنت بمحض المصادفة مشاركاً في مؤتمر هناك حين قام "بن علي" بالانقلاب على الرئيس السابق "الحبيب بورقيبة". وكانت الشعارات التي رفعها "بن علي" لتبرير انقلابه تفوح حرية وتزخر ديمقراطية.

Ad

"بورقيبة"، بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا معه، كان زعيماً تاريخياً لتونس، امتلك شرعية نضالية ضد الاستعمار، وكان جريئاً في طرحه على مستوى السياسة المحلية والخارجية، وبلغت جرأته حدَّ تعديله تشريعات جوهرية جعلت من المجتمع التونسي نموذجاً مختلفاً عن كل الدول العربية، إلا أنه اندفع في المركزية والهيمنة والسلطة المطلقة ليصبح حاكماً مطلقاً، وكان "بن علي" رأساً لأداة القمع حينذاك.

جاء "بن علي" بالانقلاب وطرح رؤى جديدة للحرية والديمقراطية والتعددية. ودخل العديد من التونسيين معه في وعوده حتى انتهى بهم الأمر إلى ديكتاتورية تجاوزت، بمراحل، العهد البورقيبي، وعاشت تونس حقبة قمعية لا مثيل لها، بدت من حيث الشكل منفتحة، ومن حيث الجوهر شديدة الوطأة على البلاد والعباد. وما ان فر "بن علي" وهرب، حتى بدأت بوادر فجر جديد. كانت تونس الأولى في "الربيع العربي" ومازالت هي الوحيدة الصامدة، حيث أُثخِنت كل شقيقاتها العربيات بالجروح والدماء والمستقبل المجهول.

عبثاً حاول المحاولون حرف المسار التونسي عن طريقه بالاغتيالات تارة، وبالإرهاب العام تارة أخرى، وبرفع السلاح في وجه الأمن التونسي، لكننا مازلنا نرى التجليات التونسية في أبهى حالاتها رغماً عن الوعثاء وقلة الزاد ووعورة الطريق.

أمس جرت الانتخابات البرلمانية العامة في تونس لانتخاب 217 نائباً، وأهمية ذلك تعود إلى أن الانتخابات تجري بموجب دستور جديد تم إقراره في 2014 من مجلس تأسيسي منتخب.

والأهم من كل هذا أن العملية السياسية قد صمدت أمام التحديات الحقيقية، ولم تنكسر كما انكسرت غيرها من شقيقاتها العربيات، بل إن الدستور ذاته قد صمد في الكثير من مواده أمام محاولات التهميش والتمييز والتقليل من قيم الحرية والديمقراطية والمساواة. ولم يكن لذلك أن يحدث أو يتحقق لولا وجود مجتمع مدني فاعل، ودور حقيقي للمرأة التونسية في الحياة العامة.

ليس لنا إلا أن نهنئ الشعب التونسي وقواه السياسية كافة على انتخاباتهم، ونتمنى أن يكونوا كما هم، وقد كانوا الأوائل في إسقاط الديكتاتورية بدون دماء، وأن يطرحوا نموذجاً مغايراً، ويكونوا الأوائل في ترسيخ قيم الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة، لكي نستطيع أن نقول إنه مازال هناك أمل.