توزعت أشهر نكبات الوزراء في التاريخ الإسلامي بين الشرق والغرب كأنها رسالة موحدة مفادها أن مآلات الظلم واحدة سواء في بغداد العباسية أو قرطبة الأموية، أما الأولى وهي الأوقع فتخص آل برمك، وكيف بطش بهم هارون الرشيد بعد أن ظنوا أن حفيد أبي جعفر المنصور لعبة في أيديهم.

Ad

البرامكة ومنهم من رعى الرشيد صغيراً، ومن هم من صاحبه كأخٍ له خلقوا دولة داخل الدولة، يحكمون فيها باسم خليفة بغداد، يجرون الأرزاق ويضربون الأعناق، يجندون جنداً يأتمرون بأمرهم، ويوظفون شعراء النفاق لكيل المديح فيهم حتى لامسوا خطوط الشرعية وطبائع الملك التي تأكل الولد وتضرب عنق ابن العم إذا أكلوا من صحن الرياسة.

وعندما بطش الرشيد بهم بطشته التي خلدتهم إلى يومنا هذا، تساءل آل برمك وهم في السجن كيف انتهينا إلى هنا بعد أن كنا على رأس القوم؟ فردّ أبوهم يحيى وهو أحكمهم: "يا بني دعوة مظلوم سرت بليل ونحن غافلون، ولم يغفل الله عنها".

النكبة الثانية حدثت في عاصمة الأندلس قرطبة، وأبطالها آل المصحفي وأبوهم الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي الذي كان رفيق درب الخليفة الحكم المستنصر بالله ومدبر دولته، وعندما مات الحكم وخلفه ابنه هشام وظل المصحفي في منصبه حتى خلعه الثعلب محمد بن أبي عامر، ونكّل به هو وابنه وابن أخيه، وسجن جعفر المصحفي وهو شيخ كبير حتى مات.

وليس في نكبة المصحفي ما يقارن بنكبة البرامكة، فجعفر صعد مراتب الدولة بفضل الوساطة لا أكثر، نفرت منه الناس لبخله وسوء أخلاقه، ليس له في الحرب سيف أو تدبير، وليس له في السياسة حنكة أو رأي، كان سقوطه أمراً محتوماً مع العامري أو مع غيره، لكنه مع العامري كان مأساوياً بدلاً من العزل مع الإغداق والاستغناء مع البقاء، وما ميز الإطاحة به هو إقراره بأنه كان يتوقع ما سيحصل له منذ أربعين سنة!!

وسجل مؤلف كتاب "نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب" أحمد بن محمد المقري التلمساني، أن المصحفي قال لأهله وهو يجهز نفسه للذهاب إلى مقر الحاجب الجديد: لن تروني بعدها حياً، فقد أتى وقت إجابة الدعوة وما كنت أرتقبه منذ أربعين سنة، ويكشف المصحفي الذي بات منهاراً وعيون الحرس تتعجله من كل مكان: لقد شاركت في ظلم رجل أودع السجن في عهد الخليفة الناصر والد الخليفة الحكم، وقد أطلقت سراحه بعد أن أتتني رؤيا طلب مني فيها أن أطلق سراح ذلك الرجل المظلوم، بعدها طلبته للمثول أمامي وسألته عن دعوته عليّ، وبعد تمنع واستحلاف أجابني الرجل لقد دعوت على كل من شارك في ظلمي أن يميته الله في أضيق السجون، فقلت إنها قد أجيبت وندمت حين لا ينفع الندم.

ولقد أمدّ الله في عمر المصحفي، وهو ينقل من سجن إلى سجن، وقيل إن أبي عامر بالغ في إذلاله، إذ كان يأخذه معه في بعض غزواته الصيفية (الصوائف) وهو رجل طاعن في السجن، والشيء الوحيد الذي أجاده هو شعر التذلل على أمل أن يطلق سراحه ومنه:

هبني أسأت فأين العفـو والكـرم

إذ قـادني نحوك الإذعان والندم

يا خير من مدّت الأيدي إليه أما

ترثي لشـيخ نعـاه عندك القلم

وعندما يئس المصحفي من مثل هذه القصائد كتب كأنه يخاطب من سيمارسون الظلم بعده، أي مصير ينتظرهم:

صبرت على الأيـام لما تولّـت

وألزمت نفسي صبرها فاستمرت

فوا عجباً للقلـب كيف اعترافـه

وللنفس بعد العزّ كيف اسـتذلت

وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى

فإن طمعت تـاقت وإلا تسـلت

وكانت على الأيام نفسي عزيزة

فلما رأت صبري على الذل ذلت

فقلت لها يا نفـس موتي كريمة

فقد كانت الدنـيا لـنا ثمّ ولَّـت.