يعن لي متابعة الندوات التي تُعقد عقب عرض الأفلام لأتعرف إلى رؤية وثقافة مخرجي الأفلام، وأحكم على شخصية أصحابها، وحجم ما يتمتع به الواحد منهم من حضور و«كاريزما» بعيداً عن الموهبة التي يملكها أو الحرفة التي يتقنها!

Ad

هذه العادة التي تمكنت مني أتاحت لي الحكم، بالكثير من الدقة، على عدد غير قليل من المخرجين ذائعي الصيت، في مرحلة مبكرة من مسيرتهم؛ فمن خلال ندوات الأفلام عرفت المخرج «المُسالم» الذي يكتفي بما قاله في فيلمه، ولا يضيف جديداً في الندوة تاركاً للمتلقي، وحده، الوصول إلى ما أراد... والمخرج «العدواني» الذي يصل إلى مكان الندوة، وقد عزم العزم على أن يرد «الصاع صاعين»، ويتحوَّل إلى غريم للحضور... والمخرج «المتواضع» الذي يُنصت لما يُقال لكنه لا يفوت سؤالاً مباغتاً من دون أن يتوقف عنده، ويراجع صاحبه، وربما يُثني على ما قال. أما المخرج «الطاووس»، الذي يُشبهه الأشقاء التونسيون بـ «الديك الذي يظن أن الشمس لم تشرق إلا لتسمع صوته»‎ فينظر إلى الحضور باستعلاء، ولا يتوقف عن التقليل من أهمية ما يُثار أثناء النقاش، والتسفيه منه، بالسخرية مرة والتجاهل مرات، بينما يتباهى المخرج «المُدعي» بأنه صنع فيلماً «لَا يَأْتِيه الْبَاطِل مِنْ بَيْن يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفه»، ويحتاج إلى «جمهور خاص» يتمتع بدرجة كبيرة من الوعي والثقافة تتيح له فهم الإيحاءات، وإدراك الإشارات، واستيعاب رسائل الفيلم!

في الدورة الأخيرة لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية (16 – 21 مارس 2015) تجسدت الظاهرة مرة أخرى لكنها اتخذت منحى جديداً من خلال المخرج «المُفسراتي»، الذي يجد نفسه عاجزاً عن إقناع الحضور بما قدمه في فيلمه، ولا يكتفي بما شاهدناه على الشاشة، وإنما يُجهد نفسه، طوال الندوة، في توضيح ما أراده من الفيلم، والتأكيد على أنه كان يعني «كذا وكذا»، وأن فيلمه يتبنى رسالة ما يبدأ في تفسير أبعادها،ويحفل بلغة جمالية يستطرد في التنبيه على مواضعها، مثلما يذخر بلوغاريتمات يتطوع من تلقاء نفسه بفك طلاسمها!

هذا النوع من المخرجين يُعد مثالاً صارخاً للفشل كون الواحد منهم «يفسر الماء بعد الجهد بالماء» وعاجز عن توظيف أدواته ليقول ما يريد عبر قطعته الفنية بدلاً من التفرغ للشرح والتفسير،ما يجعله مثاراً للتندر والسخرية من قبل بعض أصحاب الجملة المأثورة: «كان ينبغي عليه أن يسبق عرض الفيلم بمذكرة تفسيرية يوزعها على الحضور»!

أما المخرج «المُبرراتي» فهو الذي يختلق الأعذار، ويسوق المبررات، ليخفف وطأة «الكارثة» التي اقترفتها يداه، وتابعنا وقائعها على الملأ؛ من خلال الزعم بأن «الأمن استولى على الكاميرا أثناء التصوير، وتحفظ على بعض المشاهد المهمة» أو يحمل الرقابة مسؤولية «التنكيل بالفيلم، وتشويه قضيته»، بينما يسعى ثالث إلى جذب تعاطف الجمهور بالقول إن «المنتج غل يده، وضيق عليه، ولولا الموازنة الضعيفة لأصبح قادراً على أن يباري فيلليني»!

بالطبع هناك المخرج «المُتسق مع ذاته»، الذي يعرف إمكاناته، ولا يتخطى حدوده، وطوال انعقاد ندوة فيلمه يبدو دمث الخلق، شديد الإيمان بأن مهمته انتهت بمجرد اكتمال نسخة الفيلم، وعرضه على الجمهور، ومن ثم يبدو رحب الصدر أمام كل وجهات النظر، منفتح العقل على كل الآراء، حتى تلك التي تنتقد الفيلم، ومن دون أن يدري، أو يتعمد، يبدأ الجمهور في التعاطف معه، ويغفر له هناته، وللفيلم ثغراته!

هنا يطرح سؤال نفسه: هل يلبي المخرج دعوة الحضور إلى ندوة فيلمه، وفي نيته أن يرتدي قناعاً يُخفي به شخصيته الحقيقية أم أنه يجد نفسه مدفوعاً، رغماً عنه، إلى ارتداء «القناع» في محاولة يائسة من جانبه لصد أشكال الهجوم على فيلمه، وعليه؟

  الأمر المؤكد أن امتلاك ناصية البيان، والمهارة في إدارة الحوار، يحتاجان إلى مقدرة لا تقل أهمية عن الموهبة التي يتمتع بها المخرج، ومن ثم فإن براعته في إقناع الحضور بشخصيته وثقافته ووعيه، وقبل هذا كله «الكاريزما» التي يملكها، وتتيح له استقطاب الجميع من حوله، نقطة جوهرية تؤدس دوراً كبيراً في مسيرته. ونجاحه، وكم من مخرجين نجحت أفلامهم لكنهم فشلوا في التعبير عن أنفسهم، وعجزوا عن تكريس صورة ذهنية إيجابية عنهم، إما لأنهم استسلموا للسطحية أو اكتفوا ببراعتهم الحرفية، ولم يطوروا أدواتهم الحوارية، وإما لأنهم استنكفوا التخفف من التجهم، وآثروا التعالي عوضاً عن التواضع، وعاشوا في مسوح الحكماء والفلاسفة والعالمين ببواطن الأمور، وسرعان ما تحولوا إلى أوصياء على الجمهور والنقاد معاً!

ربما نبالغ عندما نطالب القيمين على مخرجينا بالحرص على التزود بالثقافة، والإلمام بمناحي الحياة، ومغادرة الأبراج العاجية التي يعيش فيها بعضهم، لكنه يبدو مطلباً مبرراً، ومشروعاً، بالنظر إلى وضعية مخرجين راحوا ضحية أفلامهم!