هناك أزمة هوية تعرقل مسيرة هذا الجيل، وأقصد به شباب هذا العصر، الذي انفتحت له نوافذ المعرفة التامة بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، ما يؤهله لتصدُّر جميع الأنشطة المعرفية في المجتمع الكويتي، وتشكيل صورتها وهويتها.

Ad

لكنه إلى الآن لم يستطع القيام بهذا الدور بشكل فعَّال يُظهر توجه خططه وأفكاره، وما يريده من مجتمعه، ومن حياته بشكل عام، فليس هناك أي تصور أو صورة واضحة الملامح تكشف عن أهداف مخططة أو برنامج يطمح في نهاية دربه للوصول إليه... صحيح أنه يقوم بأداء أنشطة جديدة على المجتمع لم تكن معروفة لديه من قبل، لكنها حتى الآن لم تكشف عن هدف أو شكل منظم واضح يؤسس لفكر جيل استطاع أن يكشف شكل وملامح هوية متميزة تخصه وتدل عليه من دون غيره من الأجيال التي سبقته، أو التي ستأتي بعده، فكل الأجيال السابقة استطاعت عكس هويتها على زمنها ومكانها، واستطاعت ترك بصمة تخصها في رقعة زمنها يُشار إليها ويعرف بها من خلالها، فهناك مثلا جيل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات وهكذا، لكن من التسعينيات حتى الآن ليس هناك أي ملامح تخص الأجيال التي أعقبتهم، على الرغم من انفتاح عالم معرفي وتكنولوجي رهيب بلا حدود يجب على مَن يعيش به أن يحوز معرفة تؤهله بمقدرة وذكاء يمكناه من الوصول إلى أهدافه وقيادتها إلى التحقق السريع.

لكن هذا ما لم يحصل إلى الآن، وكل ما هو حاصل فورات ليس لها قوام وهيئة واضحة تدل عليه وتقدمه لمجتمعه.

هناك أنشطة متشابهة تقلد بعضها البعض، لكنها لا تمثل شكلاً لهوية راسخة تدل وتشير إليه، وربما يكون عنوان هذه الأجيال، أنها أجيال بلا ملامح، أو طُمست هويتها في ضياع رفاهية معرفية هائلة شلَّت قدرتها على التبلور والخلق والابتكار والسعي المثابر خلف كل ما هو محجوب، فلم يعد هناك أي شيء خفي أو مطموس يحرض المرء للسعي خلفه بكل الوسائل والطرق المعرفية للوصول إليه والاستمتاع باكتشافات الوصول، ما أوصل هذه الأجيال إلى التخمة المعرفية الجاهزة التي لا تحتاج إلى تحريك العقل أو البدن لاكتشافها والوصول إلى معرفتها.

هذه التخمة المعرفية الجاهزة أوصلت عقول الشباب إلى الكسل، وأعطبت العملية الإبداعية لديهم، فهناك مَن يقوم بالإبداع بدلا منهم، فهذه الأجهزة الصغيرة سيطرت واحتلت عالم المعرفة والإبداع كله، ولم تترك لهم إلا جمع فضلاتها، وأعادت ربطها أو تشغيلها بما ينفعهم، لكن أبدا لن توصلهم إلى إبداع وابتكار شخصي يدلان ويُشيران بالبنان إليهم.

ومن هنا جاءت وولدت أزمة ضياع هوية أجيال لم تعد تجد ما تتفوَّق بابتكاره وخلقه، وأصبحت عاجزة، بسبب تخمة معرفية قفلت عليها كل أبواب السعي خلف اكتشافاتها والتمتع بلذة قطافها، وهو بالضبط ما يشبه حلول الآلات المنزلية وغيرها في العمل اليدوي، ما أدَّى إلى زيادة الوزن والأمراض العضلية والجسمانية.

الشيء الملاحظ بوضوح، هو عدم الشعور بالسعادة، رغم كل معطيات الرفاهية المادية والمعرفية المباحة السهلة الميسرة، خاصة في المجتمعات الخليجية، لاسيما في الكويت... حالة التذمر والشكوى والملل هي السمة الغالبة على الشباب الذين لم يعد أي شيء يُشعرهم بالانبساط أو البهجة والرضا والسعادة بكل المعطيات الفائضة عن حاجتهم والميسرة بسهولة لهم، لم تعد إلا «تسليات» ومتع قصيرة العمر لقتل السأم والوقت، ومن بعدها يجب الحصول على غيرها حين تنتهي فترة صلاحيتها.

أتذكر كل المباهج الصغيرة التي كانت تسعدنا وتفرحنا، حتى وإن كانت مجرد مشوار في السيارة، أو شراء سندويشات مع بيبسي، وأكلها في المنزل مع جميع أفراد الأسرة المجتمعة لمشاهدة فيلم السهرة، أو مسرحية كوميدية مصرية... يا الله، كم كانت تبهجنا تلك السهرات، مع كل بساطتها وسهولة العيش، في وقت كان الرضا هو بصمة الزمن فيها قبل هجمة تكنولوجيا الإلكترونيات الذكية التي مزَّقت حميمية العلاقات الأسرية، وفككت التحامها وشراكة مسراتها التي كانت عمودها الفقري الذي يجمعها ويوحدها في بهجة السعادة المشتركة، ما كان يساهم ويساعد في تنمية روح الهوية والتقاط مسارها الصحيح عند الشباب! فالحب والاهتمام والحضن الأسري كفيلة بتحديد الطريق لمعرفة الذات والالتحام بها.