عمار علي حسن أنشودة أدبية، مجدولة من رهف الإبداع، وشغاف الصوفية، ونار السياسة، وطين الأرض، فهو السياسي الحاصل على دكتوراه في العلوم السياسية، المنحازة مواقفه للبسطاء والمهمشين، ويعيش بوهج المعرفة كصوفي يتيه مختالاً مع العاشقين، وهو الأديب الذي صدر له الكثير من الأعمال الإبداعية الرائعة، والحاصل على جوائز عدة، وهو الشاب الذي عاش جل حياته تحت شمس محافظة المنيا الحارقة في صعيد مصر، وعلى طين أرضها الطيبة امتلك تجارب إنسانية عدة ميزته وعبر عنها في كتاباته.

Ad

التقته «الجريدة» في هذا الحوار الذي يكشف فيه عن جوانب من حياته لم يتطرق إليها سابقاً، وكيف تشكلت رؤاه الإبداعية، وكذا الكثير من القضايا الأدبية.

كيف بدأ اهتمامك بالأدب؟

لا يزال يرن في أذني الصوت الشجي لأبي، وهو يردد مقاطع من سيرة «بني هلال»، ونحن نكدح سوياً في الحقل تحت الشمس الحارقة، كنت أستوقفه ليحكي لي فلا يبخل عليَّ، ووجدته يزيد على السيرة الهلالية بسرد حكاية «شاور وضرغام»، و»علي الزيبق»، و»أدهم الشرقاوي»، وقصص من «ألف ليلة وليلة». سألته من أين لك بكل هذا، فأخبرني أن رجلاً في قريتنا العزلاء المنسية أجاد القراءة والكتابة في سن مبكرة، لكنه ترك المدرسة، وفتح مقهى صغيراً، وكان يجذب الزبائن بأن يقرأ عليهم كل ليلة صفحات من كتب السير التي اقتناها، ويقف عند نقطة مشوقة تدفعهم إلى ارتياد مقهاه في الليلة التالية. وإلى جانب والدي، كانت خالتي التي تكبرني بسنوات قليلة، مولعة بحكي ما سمعته من حكايات شعبية نتداولها في الصعيد، فكنت ألح عليها بأن تقصص عليَّ كل ما استقر في عقلها ووجدانها، وكنت أتابعها في صمت ولهفة، محاولا أن أرسم صوراً لما تنطق به.

كان لسيرة بني هلال تأثير كبير في تشكيل وجدانك الأدبي.

فعلاً، شكلت جزءاً كبيراً، فإلى جانب ما سمعته من والدي كنت أتابع  بشغف «إذاعة الشعب» بانتظام، حيث يشدو شاعر الربابة «جابر أبو حسين» بسيرة بني هلال، وحين التحقت بالمدرسة الإعدادية بقرية البرجاية، مركز المنيا، ذهبت إلى المكتبة في أول أيامي بها، وكان أول ما استعرته منها سيرة «حمزة البهلوان»، وعلى ضخامتها قرأتها في أسبوع من ولعي بها، ثم بدأت رحلة استعارة روايات كبار الكتاب العرب، حتى أنني قرأت لكثيرين منهم كل ما كتبوا تقريبا.

ماذا عن الكتابة الإبداعية؟

كنت معروفاً أيام الجامعة بين زملائي بأنني ممن ينظمون القصائد، عمودياً وحراً، ولا أزال أحتفظ في أوراقي القديمة بقصائد بهتت حروفها، لكن لم تفارق وجداني ومخيلتي، إذ سرعان ما انداحت في أعمالي النثرية والسردية، التي أحاول ألا أتخلى فيها عن منحنى الشعر إياه من ضرورة الولع بالبلاغة والجمال والمفارقة وصناعة الدهشة والقدرة على إطلاق الخيال والتخييل. ورغم أن ما قرضته كان يروق لزملائي في الجامعة، فإنني لم ألبث أن انتقلت إلى السرد، وتمنيت أن يكون أول كتاب لي يظهر عليه اسمي هو رواية، وكنت أستعيد طيلة الوقت نبوءة مدرس اللغة العربية في الصف الثاني الإعدادي، حين قال لي: ستصير كاتباً، وأتذكر أنها كانت «حصة تعبير» وكان الموضوع الذي كلفنا به هو «نصر أكتوبر»، وأعجب به ولم يصدق من أول وهلة أنني كتبته ثم أطلق نبوءته التي قيدني بها حتى الآن.

يرى البعض انشغالك بالسياسة طغى على حضورك الأدبي؟

سبقت كتاباتي الأدبية انشغالي بالبحث في العلوم الإنسانية عموماً، والاجتماع السياسي خصوصاً، فأول ما نشر لي كانت قصة قصيرة احتلت الصفحة الأخيرة من جريدة «الشعب»، وأول رزق أكسبه من الكتابة كان عن قصة أيضاً، بعد أن فزت بالمركز الأول في مسابقة أدبية لجامعة القاهرة سنة 1988. وكانت أول محاولة لنشر كتاب مجموعة قصصية ذهبت بها إلى سلسلة «إشراقات أدبية»، التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، لكنها لم تر النور، وتخليت عنها تماماً، حين كتبت ما هو أفضل، واعتبرتها فرصة للتجريب والتجويد، وأول جائزة أحصل عليها كانت عن قصة.

ماذا عن إصدارات الكتب العلمية؟

كتابي «الصوفية والسياسة في مصر» صدر أولاً سنة 1997، إلا أن إصداراتي الأدبية سرعان ما نشرت، فكانت مجموعتي القصصية الأولى «عرب العطيات» 1998، وبعدها بثلاث سنوات صدرت روايتي الأولى «حكاية شمردل»، وبلغ انشغالي بالأدب حداً كبيراً لدرجة أنني طوعت له دراستي للدكتوراه، فجعلتها عن «القيم السياسية في الرواية العربية»، مدفوعاً بالرغبة في معرفة الرواية بنصها ونقدها أكثر من معرفة السياسة بتصاريفها وأحوالها وحتى الآن لي سبع روايات هي «حكاية شمردل»، و{جدران المدى»، و{زهر الخريف»، و{شجرة العابد»، و{سقوط الصمت»، و{السلفي»، و{جبل الطير».

وشرعت منذ مدة في كتابة رواية ثامنة، بينما كتبت أربع مجموعات قصصية هي: «عرب العطيات، أحلام منسية، التي هي أحزن، حكايات الحب الأول»، وثمة خامسة في الطريق بعنوان «أخت روحي» عبارة عن أقاصيص قصيرة جداً، ودراسة بعنوان «النص والسلطة والمجتمع: القيم السياسية في الرواية العربية»، وأخرى نقدية هي «بهجة الحكايا: على خطى نجيب محفوظ».

كيف ترى مقولة زمن الرواية، وهل نعيشها فعلاً؟

أتعامل مع فن القصة القصيرة بولع وتقدير ومهما قيل إننا نعيش «زمن الرواية»، فهذا لا يعني أن الألوان الأخرى من الفنون السردية ستنزوي ويطمرها النسيان أو الإهمال، إنما ستعيش تحت كنف الرواية، وقد يأتي يوم وتعاود صعودها، وأكبر دليل على هذا الاتجاه إلى تشجيع «الأقصوصة القصيرة جدا» في عالم تويتر الذي يميل إلى التكثيف والاختزال والذهاب إلى المعنى من أقرب طريق.

أبي... والسيدة

ما الذي يشغلك عندما تبدأ في كتابة قصة أو رواية جديدة؟

في كل مرة أبدأ كتابة قصة أو رواية جديدة يرد على ذهني شخصان، أبي في حقله، وسيدة الحافلة، الأب كان يرفع أول ضربة فأس في أرض قاحلة ممتدة أمامه، لكنه لا ييأس بل يواصل الضربات، والفأس تقضم التربة في نهم، فإذا بالبوار يرحل ويزدهر الطمي تحت قدميه وخلفهما، مشتاقاً إلى البذور لينبت الزرع البهي، ضربة وراء ضربة تتغير الحال من الفراغ إلى الامتلاء، من اليباب إلى العمار.

أما السيدة فهي تلك التي رأيتها ذات يوم في حافلة وكنت أعد أطروحتي للماجستير، وقد جمعت مادتي العلمية حتى وصلت إلى حد التشبع، لكن أصابني كسل فتوقفت عن الكتابة، إلى أن رأيتها تجلس على مقعد أمامي، وفي يدها إبرة تريكو وخيوط ذات ألوان أربعة، تدور بينها حتى تصنع عقدة، وتتبعها بأخرى، وهكذا حتى تشكّل خطاً منسوجاً بإحكام.

وقفت أتابع دأبها في شغف عميق، وتعلمت منها أن تراكم القليل يصبح كثيرا. وقلت لنفسي وأنا أقف أمامها مشدوها: حرف وراء حرف، تولد كلمة، وكلمات تصنع جملة، وعبارات تصبح فقرة، وفقرات تصبح صفحة، وصفحات تصير فصلا، وفصول تتتابع تخلق كتابا. ومن يومها كلما بدأت في كتابة رواية تأتيني صورة هذه السيدة، ممتزجة بصورة أبي مع فأسه أمام الأرض اليباب.