في ديوانها الصادر حديثاً «طيف بلا ظلال»، تسير الشاعرة ليندا نصار  بين ألغام الواقع، وتتماهى مع عمق أعماق ذاتها، لتصوّر الفراغ في مشاهد تتقاطع حيناً وتتناغم حيناً آخر، فتنتفي المسافة بين شخصيتها وبين الموضوع وتتجاوز الزمان والمكان لتحاكي قصائدها الإنسان المطلق المحلق فوق الوقت، السابر أغوار المجهول، وما يحمل من هواجس القلق والغياب... في ديوانها كما في مجمل كتاباتها لا تحلم ولا تهرب من الواقع، بل تمعن في رسم الخيبة والفشل وتبني من خلالهما رؤية خاصة بها للعالم والإنسان، وكأنها تحاول تلمس المصير، من خلال فلسفة وجودية، تهدف إلى تعميق أثر الإنسان وحضوره، إنما خارج حسابات الوقت والظروف والمجتمع والبيئة المحيطة، وكأنها بذلك تحاول رسم إنسان جديد منطلقة من ثنائية «الأنا» والوجود، بكل ما فيها من انفعالات وتناقضات. هنا بالذات يمكن القول إنها تلج باب الحلم لتنهل منه خطوط عالمها هي وإنسانها هي ووجودها هي، ضمن رؤية ترتكز على مواقف وتجارب مرت بها الشاعرة، وتحاول من خلالها تلمس طريق لا مجال فيه لكل ما يعذبها ويعذب جيلها من الشباب، بدءاً بالفراغ، مروراً بالمعاناة من بعض القيم المجتمعية التي يفرضها الواقع، وصولاً إلى الخوف والقلق من المستقبل.

Ad

حول ديوانها الجديد وكتاب «أغني بالعربية» الموجه للأطفال والصادر حديثاً أيضاً كان الحوار التالي مع الشاعرة ليندا نصار.

إلام يرمز العنوان «طيف بلا ظلال»؟

يشكل العنوان عتبة مهمة في فتح شهوة القراءة، كما يقول رولان بارت، وأفترض أن اختياره لا يكون عبثياً، بل يكون رهاناً جمالياً يمكن أن تلتئم في ثناياه الرؤية التي يصدر منها الشاعر، ولعل توظيف كلمة {طيف} هنا تحيل إلى كل ما يرتبط في دلالتها من جنون وغضب وألوان فقدها الإنسان العربي في زمن السواد واغتيال الأحلام الكبيرة، ومصادرة حتى الصغيرة منها التي كنا نربيها كي تنمو طبيعية في خيالنا؛ هذا الخيال يصبح مزعجاً أيضاً، وبالتالي فربط كلمة طيف بمحو الظل باعتباره تشكلا جمالياً يحيل إلى الهشاشة، إلى انعدام الشكل والانفتاح على ممكنات لا نهائية من الاحتمالات، بل يمثل أصل الفن؛ لأن كل الفنون تقوم على خاصية الإيهام، من هنا فالمسافة بين الطيف والظل ممكنة في الواقع الذي صار مادياً، وأصبح كل ما لا يرى إلا بوساطة الحواس مرئياً، هذا الصراع بين الطيف بوصفه حالة من حالات البحث عن منطقة من الأحلام في ما وراء طبيعة الحياة نفسها، انطلاقا من تمثل، هو ما دفعني إلى التفكير في تدمير علاقة غير موجودة أصلا إلى منطقة الاحتماء ألا وهي الشعر.

 

كيف تبنين هيكلية القصيدة؟ وهل تقصدين أن تكون مرآة للأنا عندك؟

أحببت في هذا الديوان أن أتخلص من جماليات الكتابة التي تربينا عليها طيلة عقود من الممارسة الكتابية، أنطلق دائما من عجز النظرية عن مقاربة النصوص التي تحمل جماليات جديدة، فتاريخ الدراسات الأدبية علمنا أن النصوص هي التي توسع مساحات الجنس الأدبي وقوانينه، وأن سؤال الكتابة يظل مفتوحاً على جميع الاحتمالات بما فيها التي لم يصل إليها نقاد ومنظرو الأدب. لهذا كل نص يفرض عليك شكله. أكتب تحت الشرط الجمالي الذي ينتصر للحرية، وقد يسعفني الوقت في الدواوين المقبلة أن أصل إلى أشكال متعددة في ترجمة أسئلتي وقلقي ورهاناتي المختلفة.

الغياب هو القاسم المشترك بين القصائد لكنه ينبض بمشاعر وصور تتجاوز التجربة الشخصية إلى التجربة الشاملة للغياب بمفهومه العام.

الشاعر هو الغربة نفسها، وهكذا يجد نفسه ضائعاً في الذات بما تحمل من تناقضات على مستوى حيواتها المؤجلة. فالغياب مجرد صيغة من صيغ هذا التناقض الذي يفتت حضور الذات في علاقاتها بالعالم الـمُهَدِّدِ لكل جميل في الأشكال المجاورة لمحن الشاعر داخل هذا الكون، فالغياب في هذا النص ليس غياب الآخر وقسوته، بل غياب يحمل صورة لخرس الإنسان. ألا يستحق هذا الغياب أن نملأ فجواته بغياهب الاحتمال والبحث القاسي عن فضاء للحلم؟

تعكس قصائدك هموم الشباب عموماً، لا سيما معاناتهم الغربة والفراغ، يبدو أنك تحاولين بطريقة ما إعادة اكتشاف ذاتك، فإلى أي مدى نجحت في ذلك؟

الشاعر لا عمر له، ولذا كلمة شباب تحيل إلى التجربة الحياتية؛ فالقصيدة زئبقية يمكنها أن تحمل عبء الأساطير في الماضي، وعبء السنين، وعبء العبء نفسه، من هنا أفضل أن لا يتم ربط التجربة الشعرية بالعمر؛ لأن ثمة شباباً كهولاً يحملون في تضاريس أرواحهم صدأ السنين، وتراهم وهم يتحدثون كأنهم وصلوا إلى درجة القبر، إذاً فالغربة إنسانية، والشاعر كيفما كان عمره يعيشها بقلق مضاعف. في صراعه المرير مع اللغة، والعالم يمنح الكائن الذي يحمل في مساحات تخييله الحق في الحياة ولو بعد قرن من موته. هو يفكر في ما يمكن أن تكون عليه هذه الذات أثناء غيابها.

في قصائدك صور تنبثق من الواقع فيما الحلم غير موجود، لماذا؟

إنها قصائد كاتمة للحلم تبحث عمن يغازل عراءها في وقت لم يعد لنا الحق حتى في حلم الكتابة، بعدما تفشت داخل هذا الواقع الفوضى الطبيعية غير الخلاقة. إنها قصائد تمرّ بي وبالقارئ أحياناً، وهنا تحقق شاعريتها في هذه الإمكانات لجعل الواقعي منظوراً إليه من واقعية تتعدى الواقع نفسه.

 تتشعب المواضيع في قصائدك وتتداخل، وكأن كل قصيدة عالم بحد ذاته، فهل تقصدين الإلمام بأكبر قدر ممكن من الهموم التي تواجه الشباب؟

هو القلق الذي يعيشه كل شاعر في كل مكان وزمان؛ لأنه غير مرئي بالنسبة إلى الآخرين الذين يقفون عند حدود التطلع إلى المرآة، والرؤية المجهرية لتفاصيل الأمور تجعلك تشعر وكأن هولاء الشباب لا يعيشون أي همّ، كما هي الحال مع الذين حققوا كل شيء ويفكرون في الانتحار، نحن أمام تحولات نفسية وثقافية واجتماعية وإيديولوجية تجعلك تختزل العالم في صورة.

لماذا كل هذا القلق وهذه الهواجس في كتاباتك؟

إنه قدري بكل بساطة، وهذا قدر كل ذات هشة تحمل حساسية مفرطة تجاه الذات والعالم.

هل يتماهى ديوانك الجديد مع ديوانك السابق «إيقاعات متمردة» أم يتقاطع معه، لا سيما من ناحيتي الثورة والتمرد؟

يمكن أن أتحدث عن رؤى جمالية لا تتقاطع بقدر ما تنتج تعددية على مستوى بناء الموضوع الجمالي شعرياً، وهنا أشير إلى أن في «إيقاعات متمردة» كنت مشدودة أكثر إلى جعل الصورة مركبة، وكان الإيقاع يشكل لي مرجعاً بالنظر إلى مرجعياتي في العزف الموسيقي، ومع «طيف بلا ظل» كنت مشدودة أكثر إلى الصورة باعتبارها ترجمة لحواس تخيلتها قريبة مني في منطقة الأحلام التي هيمن عليها الإيهام بواقعيتها، فالتعددية على مستوى إنتاجية المعنى تشكل امتدادا قد لا أقف عنده؛ لأنني أصغي جيداً إلى ما يكتب عن النصوص لا السير وفق منطق هذه القراءات، بقدر ما أصبو أن أكتشف كيف يُقرأ وعيي الشعري. لهذا فالتمرد لصيق بقراءة تراثنا الشعري العربي وغيره، والإقامة في ما كتبه رواد الحداثة الشعرية، وأزعم أنني أعيش بينهم قلقة أكثر تجاه ما كتبوه ومرجعياتهم في الكتابة نفسها.

بمن تأثرت من الأدباء والشعراء؟

تأثرت بجدتي، التي بنت مخيّلتي وحملت إلي مئات القصص التي لم أستطع أن أرويها حتى الآن. إنها أسطورة أحتفظ بحقي في إعادة كتابتها. وتأثرت أيضا بالشّاعر نعيم تلحوق الّذي حثّني على البحث عن المعرفة الحقيقية، كما تأثّرت بالشاعر عمر شبلي الّذي علّمني أنّ بالشّعر نكسر القيود، وتعلمت من كافكا سر السؤال حول الوجود الإنساني، ومع كليلة ودمنة تعلمت عبقرية تجاوز حدود الرقابة، وتعلمت مع سيزيف كيف أقاوم زلازل الحياة... وما زلت أتعلم من هؤلاء الأصدقاء الذين غمروني بمحبتهم، ومنحوني الحق في أن أجاور تجاربهم وجهاً لوجه.

 أخبرينا عن تجربتك في أدب الأطفال وكتابيك «أغني بالعربية»، و{متسوّل ولكن».

أدب الطفل لم يلق حقّه في أدبنا العربي، أما عن النقد فلا يكاد يتجاوز بضع دراسات أكاديمية معدودة على الأصابع. إنه أدب صعب لا يمكن أن يرتقيه إلا من حمل ثقافة تربوية تؤهله ليكون طفلا، وأنا طفلة كبيرة لا تفكر في أي سنة ستموت. العمل مشترك مع المؤلّفة ماري مطر، ونحن نفكر في ما يمكن أن نقدمه لهؤلاء الأطفال الأبرياء الذين يشعروننا بالأمان، ويمنحوننا مساحات من الفرح، ولهذا نعمل على ما يمكننا أن نقدمه لهم بروحنا ووجداننا.

قصص الأطفال الصّادرة عن «دار أصالة» (تكنولوجيا ولكن، أمّي صاحبة الكراج ومتسوّل ولكن)، عالجنا فيها قضايا اجتماعيّة لتوعية الأطفال، أمّا «أغني بالعربيّة» الصّادر عن «دار العلم للملايين»، فهو عبارة عن خمس وعشرين أغنية للأطفال ملحّنة ومسجّلة على قرص مدمج (CD) تحاكي منهج الرّوضات، فيتعلّم من خلالها الطّفل المفردات الّتي يحتاج إليها في بدايات تعلّمه اللّغة العربيّة.

 أنت عضو في «شهرياد»، أخبرينا عن هذه التجربة وما الهدف منها؟

«شهرياد» أو لنقل فضاء الحرية من دون ربطات عنق تخنق صوت الحقيقة في الإبداع، هي فكرة الشّاعر نعيم تلحوق الذي يحلم أن يجعل من الثقافة لحظة بسيطة بعيداً عن ثقافة العقد والرسميات، ودعوة مفتوحة لكل من يصرّ أن تكون الثقافة أداة لترميم خساراتنا المتواصلة ضد القبح، ودعماً للتجارب الجديدة، وانفتاحاً على الأدباء العرب، وجعل الموسيقى وسيلتنا لنقول إن الأدب والموسيقى والفن والحرية مرجعياتنا في هذه الدائرة التي تتسع لكل الأشكال في فضاء صغير جدا، لكنه يكبر بكل الحالمين. إنه مطعم ثقافي فني يرمم أعطاب الذاكرة البيروتية التي تتصحر خلسة منا.

نبذة

الشاعرة ليندا نصار، حائزة إجازة في الأدب العربي- الجامعة اللبنانية- كلية الآداب والعلوم الإنسانية. استاذة لغة عربية في مدرسة سيتي إنترناشيونال سكول- زقاق البلاط- بيروت. كاتبة في الإعلام الثقافي. عضو في اتحاد الكتّاب اللبنانيين.

صدر لها: اعترافات مجنونة (2012). إيقاعات متمرّدة (2014). قصص للأطفال بالاشتراك مع ماري مطر: تكنولوجيا ولكن (دار اصالة للنشر والتوزيع- 2013)، أمي صاحبة الكاراج (دار أصالة للنشر والتوزيع (2013)، متسوّل ولكن (دار أصالة للنشر والتوزيع -2015)، أغني بالعربية (دار العلم للملايين (2015).

موسيقى وتعليم ونقد

 ما علاقة الكتابة عندك بالموسيقى خصوصاً أنك تعزفين على آلة الغيتار؟

الموسيقى جوهر الروح، بها أحيا ومنها أستمد قوتي كي لا يدمرني الفراغ، آلة الغيتار صديقتي الأولى التي تلهمني سر الحياة، وتمنحني الهدوء في زمن الضجيج. إنها أداة أخرى من أدوات المقاومة، وجعل العالم جميلا ولو في ثقب الروح المهشمة.

هل لمهنتك في التعليم أثر في اختيار مواضيع كتاباتك؟

التعليم حكاية لجعل العين قريبة من هذا الجيل الذي يعيش «غريباً» بيننا، وأحاول التواصل معه كي أحصّنه، من كافة الانزلاقات، بالمعرفة والجمال، إنه تجربة، والتجربة تعمق وعي المبدع ليتجاوز الـ «أنا» إلى الـ «نحن» الجماعية بعد هذه الانهيارات التاريخية في بورصة القيم.

 إلى جانب الشعر والأدب والموسيقى تكتبين مقالات نقدية في الصحف، فما الذي يحرك قلمك للكتابة في هذا المجال؟

أكتب قراءات نقدية في كتب تعلقت بها، ومنحتني فسحة أمل في أن الكتابة وحدها تنقذ العالم من هذا الطائفي فينا، إذا كانت منطلقاتها جمالية وإنسانية وليست أيديولوجية النزعة، أو باحثة في جائزة قد يموت بعدها النص ولا يكون لها صوت. إذن النقد الذي أكتبه انتصر لنداء هذه النصوص الخفي، وولعي بالقراءة الذي أراه يكبر مع كل نص، ومع كل تجربة. أليست الكتابة في النهاية قدري المحتوم؟