عندما رفض الملك فؤاد اصطحاب وزير خارجيته في السفر إلى أوروبا في رحلة خاصة للسياحة والاستشفاء في منتصف عام 1927، امتنع البرلمان عن إقرار اعتمادات نفقات رحلة الملك الذي اضطر أن يقبل بقرار البرلمان ويصطحب معه الوزير ثروت باشا مستجيبا للتقاليد الدستورية آنذاك.

Ad

عقاب والدي الإرهابي

أثار التصريح غير المسؤول الصادر من وزير العدل المصري المستشار أحمد الزند، أثناء زيارته للكويت، بأنه يفكر في قانون يعاقب والدي الإرهابي، ردود فعل كثيرة في مصر وفي الكويت، خاصة أنه أضاف إلى تصريحه أنه يأمل إعداد مشروع قانون مع الكويت يحقق هذا الغرض، وهو التصريح الذي تناولته في مقالي الأحد الماضي المنشور على هذه الصحفة تحت عنوان "عندما اختل ميزان العدالة لدى وزير العدل مرتين".

تصريح الوزير أساء إلى العدالة في مصر

والواقع أنه لا تثريب على الوزير في أن يفكر، شأنه شأن أي إنسان قد يخطئ أو يصيب، فإن ظلت أفكاره في السرائر فأمرها إلى الله، أما إن جاوز الأمر نطاق السرائر إلى العلن في كل وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية فإن خطأ الوزير يصبح: خطأ مضاعف الأثقال.

فوزير العدل ليس وزيراً عاديا، بل هو رمز العدالة في كل دولة، وهو المسؤول سياسيا عن حسن سير العدالة، لهذا كان هذا التصريح صادما للجميع، ولم يكن في حسبان أحد، خاصة أن الوزير من رجال القضاء الذين يزِنون كلماتهم ويحرصون على اختيار عباراتهم، فضلا عن الرصانة والوقار اللذين يتمتع بهما القاضي، وما تفرضه عليه التقاليد القضائية من تجنب الانفعال والغضب، وألا تصدر تصرفاته وأحكامه عن ردود أفعال، بل يجب أن يحكمها العدل والحق معا، فضلا عن الرأفة والرحمة عند وجود المقتضى، وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "... لا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ".

وقد وقع الوزير، بهذا التصريح، في حومة مخالفة الدستور، الذي أقسم على احترامه عندما تبوأ منصبه الوزاري، ومن أول مبادئ الدستور شرعية التجريم والعقاب والمبدأ الدستوري القاضي بأن العقوبة شخصية، فلا يسأل عن الفعل إلا فاعله، بل، وهو الوزير الأريب الذي تخرج في كلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر والذي كان يستشهد دائما قبل توليه منصبه الوزاري بالآيات البينات من القرآن الكريم في خطبه ولقاءاته، يعلم يقينا أن المبدأ الدستوري السابق الإشارة إليه قد ورد في القرآن قبل أن تعرفه الدساتير بقرون، الأمر الذي لا يمكن تنزيه الوزير عما انزلق إليه هذا التصريح، عن سوء الطوية، حملا له على العجز عن البيان.

الميزانية كأداة فعالة للرقابة البرلمانية

ولأن التصريح قد صدر من الوزير خارج مصر فقد استعدت من الذاكرة قصة البرلمان المصري الذي أجبر ملك مصر على اصطحاب وزير خارجيته في رحلة خاصة زار فيها أوروبا، خوفا من أن يتورط جلالته في تصريح أو خطاب يلقيه، يمسّ سمعة مصر، فهو رمزها، كما أن وزير العدل في مصر هو أحد رموز العدالة فيها.

وتفاصيل هذه القصة أنه عندما أراد الملك فؤاد السفر إلى أوروبا في رحلة خاصة للسياحة والاستشفاء في منتصف عام 1927، طلبت منه حكومة عبدالخالق باشا ثروت أن يصطحب معه وزير الخارجية، فقد كانت أغلب الحكومات المتعاقبة بعد العمل بدستور 1923 تريد الحفاظ على الدستور، وعلى النظام النيابي الذي تبناه واضعو هذا الدستور في ظل ملكية دستورية، وأن ترسي التقاليد الدستورية لهذا النظام، والتي أرستها حكومة سعد زغلول في ظل أول تطبيق لدستور 1923.

إلا أن الملك رفض اصطحاب وزير خارجيته فاستخدم البرلمان الميزانية كأداة فعالة للرقابة البرلمانية، وامتنع عن إقرار اعتمادات نفقات رحلة الملك، الأمر الذي اضطر الملك أن يصطحب معه ثروت باشا.

مصر والرشد الديمقراطي

وقد دفعني إلى سرد هذه السابقة البرلمانية التي ترجع إلى ما يقرب من مئة عام مضت، أن أؤكد عراقة مصر في الممارسة الديمقراطية، وأنه يفترض أن تكون قد بلغت الرشد الديمقراطي، بما لا يجوز معه القول إن مصر في سنة أولى ديمقراطية، تبريرا للتجاوزات في الممارسة البرلمانية والمهازل التي تدور الآن في ساحة البرلمان المصري، لأن مثل هذه التقاليد الدستورية التي خرجت من رحم دستور 1923 ومن رحم ثورة 1919 وتلك المسيرة الديمقراطية الشامخة التي قادها زعيم هذه الثورة منذ ما يقرب من مئة عام، تكشف عن زيف هذا القول.

مصر أول دولة عرفها التاريخ

وهو ما حاولت دائما أن أؤكده في كل ما كتبته عن الديمقراطية السليمة التي تستحقها مصر، أول دولة مركزية في العالم كله عرفها التاريخ قبل أربعة آلاف عام من الميلاد، حيث تدار أمورها من عاصمة تخضع لها سائر المدن، ويخضع لها تكتل بشري يمتد على رقعة طويلة من الأرض، وكانت هذه السلطة تجبي الضرائب وتقيم العدل بين الناس على أسس من قوانين ثابتة مكتوبة وأنظمة إدارية محكمة، في وقت كانت كل مدينة وحدة سياسية قائمة بذاتها، عند الإغريق وفي إيطاليا وأوروبا كلها، حتى في عصور متأخرة وحديثة في العصور الوسطى.

وكان لسيدنا نوح ولد غير صالح

يقول المولى عزّ وجلّ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ"، ومن القصص القرآنية ما ورد عن سيدنا نوح وسفينته التي لجأ إليها وأهله، ومن لاذ بها فرارا من الطوفان، ما جاء في القرآن "وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ". (الآية 45 سورة هود). فأجابه الله عز وجل: "قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ".(الآية 46). وندم نوح ندما شديدا عما صدر منه "قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ". (الآية 47).

فقد كان لنوح، وهو أحد الأنبياء، ولد غير صالح، وعلى ذلك فإن المولى عزّ وجلّ لم يؤاخذ نوحاً بفعل ولده، بل نجاه وباقي أهله وكل من لاذ بسفينته من الغرق.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.