الأديب الأردني جعفر العقيلي: الكتابة «فن الحذف»

نشر في 19-04-2016 | 00:00
آخر تحديث 19-04-2016 | 00:00
No Image Caption
أغواه الشعر فدخل عالم الأدب، وأغواه النثر فدخل عالم القصة. يجمع الأديب الأردني جعفر العقيلي بين الشعر والقصة، ويكتب كما لو كان في ورشة، لكنها ورشة ذاتية، يطرح فيها تساؤلات ويجتهد في تقديم إجابات، ويقول في الكتابة: «أنا المعلمُ والتلميذ، وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح إذا ما أتيح لقارئ مهتمّ أن يتتبع فروقات و{جِراحات» أجريها على النص نفسه في نُسَخِه المتعددة، وأبطاله يعيشون فِيّ، هم أشبه بأصدقاء افتراضيين يستدل على كل منهم بملامحه الخاصة».

كان إصدارك الأول في الشعر، ما الذي جعلك تكتب القصة؟

حمل إصداري الأول عنوان «للنار طقوس وللرماد طقوس أخرى»، كان ذلك في منتصف التسعينيات، وكنت أحرزت مراكز متقدمة في الشعر والقصة معاً خلال دراستي الجامعية، ووجدت أن للسرد فتنته التي لا تُقهر.

أكتب الشعر بين حين وآخر، لكنني لم أعد أرغب في لملمته بين دفتي كتاب مكتفياً بمشاركات متباعدة في مهرجانات وفعاليات شعرية محلية وعربية.

كتبتَ «ربيع في عمّان» مستلهماً في قصصها أحداثاً واقعية. حدّثنا عن هذه التجربة التي انتقلت فيها من مرحلة في الكتابة إلى أخرى؟

كانت «ربيع في عمّان» أول قصة في الأردن تتناول الحراك الشعبي المحلّي الذي انطلق على وقْع ما يسمى «الربيع العربي»، وهي تتخذ من اعتصام 25 مارس الشهير في العاصمة الأردنية حدثاً رئيساً، وأسندتُ فيها دور البطولة إلى الطفل «يحيى». لم يكن سهلاً أن أكتب عن حدثٍ ممتدّ وما زلنا نعيشه بشكل أو  بآخر، فالمعاصرة حجاب، وإنه لاختبار حقيقيّ لقدرة القاص على اقتناص اللحظة وتكثيف المشهد وإيصال الرسالة. الآن وأنا أقرأ هذه القصة بعد سنوات على كتابتها أجد أنها فوّارة بدلالات لم يجر تناولها نقدياً بالقدر الذي تستحقّه.

تشيد المعمار اللغوي في قصصك بعناية كبيرة، حتى لكأنّ حذفَ كلمة من جملتك القصصية كفيل باختلال المعنى، ما فهمك لدور اللغة في القصة القصيرة؟

أفهم الكتابة على أنها أكبر بكثير من مسألة لغوية مجردة. أتجنب الثرثرة في السرد، خصوصاً في كتاباتي الأخيرة، ولا تستهويني ضروب البلاغة وفتل العضلات في التعبير. بساطة اللغة هي التي أستعين بها لأقول ما لديّ، لكنني أحتفي بالتفاصيل، تفاصيل المشهد والحالة النفسية المسيطرة في النص. تتلاشى المسافة بين الكتابة والتقاط الصورة لدي، وأجدني أحمل كاميرا على كتفي وأنا أكتب. أرصد كل نأمة ورفّة جفن وأتتبع العلاقة بين البطل وما يحيط به من مفردات تؤثث المكان. هنا تحديداً يكون لكل مفردة دور ووظيفة، فإن لم تؤد المطلوب منها فلماذا أتمسك بها!

وهذا ما يجعلني ألجأ إلى الاختزال مؤمناً بأن الكتابة في أحد وجوهها «فن الحذف».

يلاحظ المتابع لتجربتك ما تتسم به قصصك من تشذيب، سواء ما يتعلق بالأحداث أو برسم الشخصيات أو اللغة أو المكان والزمان... كيف يمكنك أن تبلغ بالنص الدرجة العليا من التكثيف والتعبير في آن؟

أكتب القصة كما لو كنتُ في ورشة، لكنها ورشة ذاتية؛ الذات فيها هي المحاضِر والمتلقي، طارحُ الأسئلة والمجتهد في تقديم الإجابات، المعلمُ والتلميذ، هذا ما يمكن ملاحظته بوضوح إذا ما أتيح لقارئ مهتم أن يتتبع فروقات و»جِراحات» أُجريها على النص نفسه في نُسَخِه المتعددة.

مثلاً قصتي {رأس للبيع} في مجموعتي القصصية {ضيوف ثقال الظل} هي نفسها التي تحمل اسم {تعايش} في الطبعة الثانية. لا يتعلّق الأمر بتغيير  الاسم طبعاً، فثمة أحداث وتعابير وسمات للشخصيات أصابها التعديل وخضعت لإعادة النظر، وهذا نتاجُ ورشتي الداخلية واقتراحات أصدقاء وقراء أعتز بهم.

نقد... وطقوس

كتب عن نصوصك القصصية عدد كبير من الكتّاب والنقاد العرب، أي القراءات شعرت بأنها تلامس تجربتك وتعبر، بشكل أو بآخر، عنها؟  

نعم، كُتب عن تجربتي الكثير من ناحية الكم. سبعون دراسة أو مقالة شرحت هذه التجربة أو تشاكلت معها، أجملها أنجزها نقاد وكتاب عرب لم أقابلهم بعد، فكتبوا معتمدين نظرية «موت المؤلف». أما الذين كتبوا عني ممن يعرفونني فقد ذهب عدد منهم إلى ربطي بأبطالي في القصة وشغلوا أنفسهم وأفكارهم في البحث عني متلبساً في ملامح شخصياتي.وهنا أقرّ أن كل واحدة من شخصياتي تنطوي على سمة أو خصلة مني، لكن هذا لا يكفي للقول إنها صورة طبق الأصل عني.

يُعرف عنك اهتمامك الكبير بشخصياتك، سواء وصفها من الخارج أو التعمّق في مكنوناتها الداخلية، هل ثمة نماذج تستند إليها خلال اشتغالك على ملامح أبطالك ومقاربة أفكارهم وأحلامهم وتطلعاتهم؟   

يعيش أبطالي فِيّ، هم أشبه بأصدقاء افتراضيين أستدلُّ على كل منهم بملامحه الخاصة، أعرفهم جيداً لأنهم شظايا أنايَ أو هم أنَوَاتي المتعددة في تجلياتها التي لا أستطيع لبعضها فهماً.

ولأنني على علاقة وثيقة بأبطالي في السرد تراني أميل إلى الوصف الدقيق لملامحهم الجوانية والبرانية على السواء، وثمة منهم من أرى أشباهه (أصداءه) في بشر يحيطون بي، بشر لا شرط أن تربطني بهم علاقة من نوع ما، فقد أصادفهم في الطريق، أو ألمحهم من بعيد وهم يديرون ظهورهم لي غير آبهين بي وبعالمي، فأتسامح معهم متفهماً انشغالهم عني بتفاصيل يومهم.

هل تعتقد أن للكتابة طقوساً محددة على الكاتب أن يعدّ لها عدته، أم أن لحظة الكتابة تأتي «مباغتة»؟

بالنسبة إلي، تتشكل الفكرة في ذهني ثم تتدحرج ككرة الثلج، وما إن تستوي في نضوجها حتى أمنحها ما يليق بها من وقت واهتمام لأنقلها على الورق. لا وقتَ أفضله على سواه عندما أكتب. يأتي المخاض وأنا أقود السيارة أحياناً، فأستعين بزر التسجيل في هاتفي النقال وأسرد لنفسي، وعندما أصل إلى مكان مستقر أفرغ التسجيل، وأشذب النص وأهذبه قبل أن أوزعه على عدد من أصدقاء أثق برأيهم وذائقتهم.

وأجمل نصوصي هي تلك التي تباغتني وأنا منشغل عنها وعني، ولا أخفي عليك أن ثمة نصوصاً تستقر في لا وعيي ولم يحن زمن كتابتها بعد، ومنها ما بدأ يلح عليّ قبل سنوات، لكني بانتظار الوقت المناسب لتنهمر على هيئة كلمات على الورق.

كيف تنظر إلى مستقبل القصة القصيرة كنوع أدبي؟

المستقبل للقصة. القصة فتنة، القصة «موعد غرامي»، على حد تعبير صديقي الروائي اليمني محمد الغربي عمران. القصة اختبار أيضاً، فإذا كانت الرواية مثلاً تحتمل الثرثرة والزوائد والإضافات والهوامش، فإن القصة تضيق بكل هذا، وهي أشبه بجدار إذا كانت فيه «طوبة» في غير مكانها أو لم تكن قادرة بما يكفي لتحفظ توازنه، فإنه سينهار لا محالة.

back to top