القيم الإنسانية تجعل النصوص الجامدة تنحني أمام جلال مصاير البشر، واستطرادا فإنها تضعنا وجها لوجه إزاء أسئلة تقارب مفهوم العقوبة والقصاص؛ فهل يعاقب المخطئ كضرب من التقويم له أم ليثأر منه؟ وهل العقوبة وسيلة يردع من خلالها الآخرون عن اقتراف الخطأ؟ وهل العقوبات الشديدة كالإعدام أو السجن مدى الحياة هي بحق طرائق فاعلة لحماية المجتمع من المجرمين؟

Ad

كان حدثا لافتا بامتياز قرار قاض صبيحة الاثنين الماضي بإخلاء سبيل محتجز سبق أن حكم عليه بالحبس لدواع إنسانية، صحيح أن أحكام القضاء لم تكن يوما ما خلواً من التقدير، وهو كان، إلى حد بعيد، يحفّ بفرادة وحساسية ببعض القضايا، فذلك لبّ مهنة القضاء وجوهرها، إلا أن الروح المدنية والتسامح، بوصفهما قيمتين إنسانيتين رفيعتين، كانا حاضرين بقوة في تلك القضية تحديدا.

وتلكما القيمتان هما ما تجعلان مفهوم القصاص يتفادى الغرائزية وينفصل عن تلك الملحمية في موروثنا الذي تماهيه بالعنف على المستويين الفردي والجماعي كما في الواقع والطوباوي. وهذا الموروث، إذا جاز لنا التأصيل، يمنح العقوبة والقصاص تعريفهما المتجذر في التنشئة الاجتماعية والنفسية، سواء تجاه الأطفال الذين يخترقون قوانين بسيطة خلال اختبارهم الساذج لحدود المباح في عوالمهم الصغيرة، أو في النظر إلى الجرائم الكبرى الحافلة بالآثام، وعلى النحو الذي تستشف به العدالة بوصفها محض تمارين لعضلات العنف.

 بيد أن القيم الإنسانية تجعل النصوص الجامدة تنحني أمام جلال مصاير البشر، واستطرادا، فإنها تضعنا وجها لوجه إزاء أسئلة تقارب مفهوم العقوبة والقصاص؛ فهل يعاقب المخطئ كضرب من التقويم له أم ليثأر منه؟ وهل العقوبة وسيلة يردع من خلالها الآخرون عن اقتراف الخطأ؟ وهل العقوبات الشديدة كالإعدام أو السجن مدى الحياة هي بحق طرائق فاعلة لحماية المجتمع من المجرمين؟

وفي هذا السياق، فإن ما يجعل ذلك الحكم غير مسبوق، إقراره بأن العقوبة والقصاص ليسا شرطا شارطا لطي صفحة الجريمة، وأن فكرة تقويم الخطائين وإعادة دمجهم بالمجتمع كمواطنين صالحين وبنائين، تتطلب بدءا معاملتهم بنزاهة وكرامة، وذلك ما يسير ضد الاعتقاد الفولكلوري السائد بأن الأحكام ليست سوى ثأر أو جزاء يتأتى عنها سوم المجرم عذابا مكافئا لما اقترفته يداه.

 إن أفضل حكمة عن السجن نطق بها فيلسوف الرواقية إبكتيتوس بقوله: إن أي مكان لا يرغب المرء بالبقاء فيه هو سجن، وهذا القول حري بأن ينشط خيالنا بمراجعة الفكرة الهرمة المهترئة للمعتقل التقليدي، والنظر في إمكان عقوبة المجرمين بفعالية أكبر، على الأقل في الجرائم الأقل فداحة، من خلال إرغامهم على خدمة المجتمع، أو إرغامهم على الالتزام بملازمة المنزل أو العمل ساعات إضافية لتعويض ضحاياهم، فتدمج، بذلك، العقوبة والتعويض معا.

وهذا الحكم المائز الذي انطلق من المحكمة الكويتية يجب أن ينقل فكرة العقوبة من حاملها الفولكلوري ليلحمها بالنطاق الإنساني، فكل عقوبة هي في نهاية الأمر شر كبير، لأنها تحرم المرء من الحرية أو الملكية وأحيانا من الحق في الحياة، وهذه الأمور في حد ذاتها تنطوي على قدر من الضرر؛ ولذلك تحتاج العقوبة، عند إقرارها وتفعيلها، إلى تسويغ وتبرير عقلاني وإنساني لها، إذ إن المجتمع قبل إقراره للعقوبة يجب عليه أن يقدم تعريفا دقيقا للجريمة، ولعل تلك هي المعضلة الجوهرية، فالجريمة تتغير بتغير المجتمع وأطوار الحضارة والتمدن.