يكتب ستيفان تسفايج في كتابه "عالم الأمس" (ترجمة عارف حديفة، دار المدى 2007، ص110) كلاماً مؤثراً عن مرحلة تشبه مرحلة مدّنا اليساري في الأربعينيات حتى أواخر الستينيات: ".. ولذلك يتكرر أيضاً تساؤلي الذي يصحبه نوع من القلق الخاص: هل من الممكن لأمثال تلك الشخصيات التي أخلصت كل الإخلاص للشعر الغنائي أن توجد في زماننا، في أحوال حياتنا الجديدة التي ترغم الناس بطريقة إجرامية على الخروج من تأملاتها، مثلما يرغم حريق الغابة الحيوانات البرية على هجر مرابضها الخفية؟ أنا على يقين من أن معجزة الشاعر تتكرر في كل الأزمان، وعزاء غوتة المؤثر في مرثاة لورد بايرون يبقى صحيحاً إلى الأبد: "لأن الأرض ستحبل بهم مرة أخرى، كما حبلت بهم على الدوام".
سوف يظهر الشعراء مرة أخرى في تواتر مبارك، لأن الخلود لا يحرم حتى أقل العهود شأناً هذا الوعد النفيس. ولكن أليس عصرنا هو الذي لا يمنح حتى أصفانا وأكثرنا عزلة، شيئاً من السكينة للانتظار والنضوج والتأمل والتحكم في الذات، كما منح الناس في الفترة السابقة للحرب في أوروبا؟ أنا لا أدري كم يساوي اليوم شعراء مثل فايدي، وفيرهارن، وريلكة، وباسكولي، وفرانسيس جيمز، وكم يعنون للجيل الذي عجت في مسامعه جعجعة طاحونة الدعاية أعواماً عديدة، ودوي المدافع مرتين، بدلا من أنغام الموسيقى.وما أعرف وأشعر به إن هو إلا ضرورة إعلان الاعتراف بالدرس العظيم، والفرح العظيم اللذين وفرهما لنا وجود أولئك القديسين..".كلمة تسفايج هذه تكاد تلخص موقفي النقدي مما حدث في حياتنا الشعرية بعد مرحلة الريادة الوجيزة. لقد ظهر شعر حداثتنا في منتصف الأربعينيات، وقد امتص رحيق مرحلة سياسية واجتماعية متعافية نسبياً. علاقة مع التراث جديدة. علاقة متواضعة مع شعر العالم، والشعر الغربي خاصة، أهلته لدم جديد. علاقة مع مفاهيم جديدة لهوية الشاعر. وكان شعراؤه كثيري الاحتجاج، كثيري التمرد، على سلطة وعلى مجتمع لا يحسنان فهمهم، ولكنهما أيضاً لا يحسنان في الرد استخدام الأسلحة، أو تعبئة اللغة بقواميس البذاءة، والتخوين، والاتهام.كل ما حدث لتمرد الجواهري أو حسين مردان أنهما استحقا محاكمة واعتقالاً عابراً، زادهما شهرة ومجداً. في حين مات السياب وعبدالصبور، واعتزل البريكان، ومسخت مواهب رائعة، بفعل كلمات اتهام قاتلة، لأنها كلمات معبأة تعبئة رمزية بقرارات سلطة أكثر دموية من سلطة الدولة أو سلطة القانون: هي سلطة الثقافة المعبأة، والجماهير المعبأة، والأحزاب المعبأة بالضغينة والكراهية، وباتهام جاهز لعدو مفترض، يتخفى في كل كيان حي.كل ذلك يتم باسم الوطن وحبه والموت من أجله. مع أن هذا الوطن لم يتعرض في مرحلة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات التي نعرفها لغزو عسكري، واحتلال من قوة استعمارية أجنبية، كما حدث في فلسطين والجزائر. نعم، تعرض لحكم دستوري فاسد لا يخلو من مظالم، ولتسلط حزبي عقائدي الطابع. ولكن سوءة هذا التسلط الأخير كامنة في هيمنة الفكر العقائدي الواحد في تلك المرحلة. ولو أتيح للشيوعية، التي كانت حلم الثقافة والمثقفين، أن تستحوذ على السلطة في العراق، دعك عن العالم العربي، كما استحوذت على السلطة في روسيا ودول أوروبا الشرقية، لحصدنا، نحن المواطنين العزل، محاصيل ضحايانا بالطريقة ذاتها.الاحتقان العقائدي المتسلط لا يمكن أن يتوافق مع الضمير الحي الذي يتوخاه الإنسان من الشعر، ومن الثقافة عامة. ففي الوقت الذي تمت فيه تصفية المواهب الشعرية والثقافية الكبيرة، أو إخراس أصواتها المعذبة في الاتحاد السوفياتي وبقية الدول الاشتراكية، كان شعراؤنا ومثقفونا اليساريون، وهم على دراية بما يحدث، يغنون المجد الإيهامي للإنسان هناك.والجارح أن تلك الأصوات الشعرية الكبيرة: باسترناك، اخماتوفا، مندلشتام، تسفيتاييفا، برودسكي.. الذين نُكل بهم في موطنهم الأم، من قبل النظام ومرتزقته من المثقفين، كان ينكَّل بهم بدم بارد من قبل "شعراء الراية" ومثقفيها اليساريين في بلداننا العربية، وبالأخص في العراق، الذي أطفأت الثورات والعقائد التي وراءها فيه كل إمكانية للأمل.
توابل
يوم يحتقن الشعر بالضغينة
31-01-2016